مقدمة
لم يظهر مصطلح البيداغوجيا الفارقية بفرنسا إلا في سنوات السبعين من القرن العشرين مع لوي لوغراند (Louis Legrand) ، صاحب البيداغوجيا الفارقية (pedagogie differenciee/ differenciation de la pedagogie) ، على الرغم من أن هذا المفهوم كان موجودا في المجال التربوي في القرن الثامن عشر الميلادي، إن بمعان متعددة ومختلفة ومتنوعة، إذ كان الحديث جاريا حول مدرسة الأغنياء ومدرسة الفقراء؛ مما كان الوضع يستوجب ضرورة التدخل لدمقرطة التعليم، وتحقيق المساواة وتكافؤ الفرص. وأكثر من هذا، فقد تحدث دو ديستوت دو تراسي (De Destutt de Tracy) في ١٨٠٠ م، في إطار التربية الفارقية، عن وجود مدرستين طبقيتين مختلفتين: مدرسة عمالية ومدرسة عالمة. بيد أن الباحثين والمربين لم يهتموا بالبيداغوجيا الفارقية إلا في سنوات الثمانين من القرن الماضي، ومازالت الدراسات السيكوبيداغوجية - إلى حد الآن- مستمرة في هذا الشأن.
وتأسيسا على ماسبق، تعد البيداغوجيا الفارقية من أهم الآليات العملية الإجرائية للحد من ظاهرة الفشل الدراسي التي ينتج عنها ما يسمى بالتسرب الدراسي أو الهدر المدرسي، أو الانقطاع عن المؤسسة التربوية بصفة نهائية؛ مما ينتج عن ذلك كثير من المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية داخل المجتمع .
وينضاف إلى ذلك، أن شعار التوحيد، بما فيه توحيد الفصل الدراسي، وتوحيد المدرس، وتوحيد المقررات والبرامج والمناهج الدراسية، كان شعارا سياسيا محضا، أكثر مما كان شعارا علميا وتربويا يحتكم إلى مقاييس علم النفس المعرفي والفارقي، وتوجهات علم الاجتماع، وتصورات علماء البيداغوجيا والديداكتيك؛ لأن هذا التوجه لا يراعي خصوصيات المتعلم الفردية وذكاءاته المتعددة. ومن ثم، لا يعنى بمختلف الفوارق الذهنية والاجتماعية والانفعالية والحركية لدى كل متعلم على حدة. وهناك حاجة ماسة - اليوم- إلى الاهتمام بالبيداغوجيا الفارقية، بعد تنامي ظاهرة الهدر المدرسي بشكل لافت للانتباه، تلك الظاهرة التي ترتبط سببيا بالفشل الدراسي، وصعوبة تكيف التلميذ مع المقررات الدراسية تأقلما وانسجاما وانضباطا، ولاسيما مع المقررات العلمية منها. لذا، لابد من إيجاد حلول سريعة ومناسبة لمعالجة هذه الظاهرة، بعد استجلاء أسبابها المباشرة وغير المباشرة، ومعرفة مكوناتها، اعتمادا على مجموعة من آليات التحليل والمعالجة والإصلاح، وفق مقاييس هادفة ومثمرة وبناءة، قد تكون نفسية أو اجتماعية أو تربوية أو ديداكتيكية أو منطقية أو واقعية أو عملية.
إذاً، ما البيداغوجيا الفارقية؟ وما مبادؤها ومكوناتها؟ وما أهدافها؟ وما واقع المدرسة الموحدة؟ وماتاريخ البيداغوجيا الفارقية؟ وما مرجعياتها؟ وما أنواع الفوارق الفردية؟ وما أهم الحلول المقترحة للحد منها داخل القسم الجماعي الموحد؟ وما آليات التنزيل الديداكتيكي للبيداغوجيا الفارقية في الواقع التربوي العملي تخطيطا وتدبيرا وتقويما؟
تلكم هي الأسئلة التي سوف نحاول الإجابة عنها- قدر الإمكان - في موضوعنا هذا.
أولا: أوليات البيداغوجيا الفارقية
1 مفهوم البيداغوجيا الفارقية
يقصد بالبيداغوجيا الفارقية (Pedagogie differenciee) وجود مجموعة من التلاميذ يختلفون في القدرات العقلية والذكائية والمعرفية والذهنية، والميول الوجدانية، والتوجهات الحسية الحركية، على الرغم من وجود مدرس واحد، داخل فصل دراسي واحد. ويعني هذا وجود متعلمين داخل قسم واحد، أمام مدرس واحد، مختلفين على مستوى الاستيعاب والتمثل والفهم والتفسير والتطبيق والاستذكار والتقويم. ومن هنا، جاءت البيداغوجيا الفارقية لتهتم - أساسا- بالطفل المتمدرس، عبر إيجاد حلول إجرائية وتطبيقية وعملية للحد من هذه الفوارق المختلفة والمتنوعة كما وكيفا، سواء أكانت هذه الحلول نفسية أم اجتماعية أم بيداغوجية أم ديداكتيكية أم معرفية ...
ومن ثم، تنطلق البيداغوجيا الفارقية من القناعة القائلة بأن "أطفال الفصل الواحد يختلفون في صفاتهم الثقافية والاجتماعية والمعرفية والوجدانية، بكيفية تجعلهم غير متكافئي الفرص أمام الدرس الموحد الذي يقدمه لهم المعلم. ويؤول تجاهل المدرس لهذا المبدإ إلى تفاوت الأطفال في تحصيلهم المدرسي. وتأتي البيداغوجيا الفارقية للتخفيف من هذا التفاوت. ويعرف لوي لوگران (Louis Legrand) البيداغوجيا الفارقية كالآتي:" هي تمش تربوي، يستعمل مجموعة من الوسائل التعليمية- التعلمية، قصد إعانة الأطفال المختلفين في العمر والقدرات والسلوكيات، والمنتمين إلى فصل واحد، من الوصول بطرائق مختلفة إلى الأهداف نفسها "
ويعرفها الباحث التونسي مراد بهلول بقوله: "تتمثل البيداغوجيا الفارقية في وضع الطرائق والأساليب الملائمة للتفريق بين الأفراد، والكفيلة بتمكين كل فرد من تملك الكفايات المشتركة (المستهدفة من قبل المنهج) . فهي سعي متواصل لتكييف أساليب التدخل البيداغوجي تبعا للحاجيات الحقيقية للأفراد المتعلمين. هذا هو التفريق الوحيد الكفيل بمنح كل فرد أوفر حظوظ التطور والارتقاء المعرفي. "
ومن جهة أخرى، يعرفها عبد الكريم غريب بأنها "إجراءات وعمليات تهدف إلى جعل التلميذ متكيفا مع الفوارق الفردية بين المتعلمين، قصد جعلهم يتحكمون في الأهداف المتوخاة. "
هذا، وتقترن البيداغوجيا الفارقية بالتمثلات الذهنية المختلفة لدى المتعلمين، سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، أو كانوا حضريين أم بدويين. ومن ثم، فالبيداغوجيا الفارقية هي "بيداغوجيا الكفايات والقدرات؛ فهي تقتضي مراعاة الفوارق بين التلاميذ؛ إلا أن الفوارق التي تعنيها هنا، هي في التمثلات الذهنية، وليست في الانتماءات الطبقية. وفي هذا السياق، يمكن التساؤل حول التمثلات الأكثر دلالة وغنى: أهي تمثلات التلاميذ المنحدرين من أسر فقيرة أم تمثلات المنحدرين من أسر غنية؟ إن الأخذ بنظرية الشفرتين لبرنشتاين (Basil Bernstein) يسقطنا في نوع من التعميم؛ بينما يؤدي الأخذ بنتائج أبحاث دوكري (Duccret. B) إلى قناعات وتأكيدات فجة."
بمعنى أن نظرية برنشتاين تذهب إلى أن الفقراء يوظفون شفرة ضيقة ومحدودة على مستوى التواصل اللغوي؛ مما يجعلهم هذا الواقع في وضعية صعبة على مستوى الأداء والإنجاز والكتابة، حيث لا يستطيعون التعبير بسهولة وثراء وغنى، كما هي شفرة الأغنياء التي تتميز بالاتساع والثراء على مستوى المعجم والثقافة والخبرة؛ مما يؤهلهم ذلك إلى التفوق والنجاح في دروسهم.
وعليه، فالبيداغوجيا الفارقية هي تلك البيداغوجيا التعددية التي تعترف بوجود مجموعة من الفوارق الفردية الكمية بين المتعلمين داخل الفصل الدراسي الواحد. وتفاديا للإخفاق والهدر المدرسي اللذين ينتجان غالبا عن ظاهرة تعدد الفوارق الفردية في المدرسة الواقعية الموحدة، تلتجئ هذه البيداغوجيا إلى تسطير أهداف وكفايات تتناسب مع فلسفة التنويع والاختلاف والتعدد، بتقديم أنشطة ومحتويات تتلاءم مع مستويات التلاميذ المختلفة والمتعددة قوة وضعفا، باتباع طرائق بيداغوجية مناسبة، وتشغيل وسائل ديداكتيكية مختلفة تصلح للتقليل من تلك الفوارق المعرفية والمهارية والذهنية، وتوظيف أساليب التقويم والدعم والمعالجة المناسبة للحد من هذه الظواهر اللافتة للانتباه.
2 أسباب الفوارق الفردية
من المعلوم أن للفواق الفردية أسبابا وعوامل قد تكون وراثية فطرية، أو قد تكون نتاج عوامل موضوعية خارجية، أو نتاجا لهما معا. وبالنسبة للفرد، فهو خاضع بطبيعة الحال لماهو فطري من جهة، وماهو مكتسب من جهة أخرى. لكن بالنسبة للفوارق بين الأفراد، قد تكون عوامل وراثية فيما يتعلق بالقدرات والاستعدادات الوراثية والذاتية و الذكاء. أما فيما يتعلق بالميول والاتجاهات والتفاعلات الاجتماعية، فتعود إلى ماهو اجتماعي ومكتسب. ويعني هذا أننا لا نتحدث عن " الأهمية النسبية لكل من الوراثة والبيئة إلا إذا كنا نقارن فردا بآخر، ونود أن نعرف ما الذي يجعل (زيدا) يفوق (بكرا) في القوة أو الطول أو الذكاء أو الشخصية؟ أهي الوراثة أم البيئة؟ هنا نكون كمن يسأل: هل تفوق سيارة أخرى لجودة ماكنتها أو لجودة البنزين أو لهما معا. فيكون الجواب أن الفوارق بينهما قد ترجع إلى الوراثة وحدها أو إلى البيئة وحدها أو إلى كلتيهما .. وتفصيل ذلك أن وراثة أحدهما تختلف من دون شك عن وراثة الآخر، إلا أن يكونا توأمين صنوين، لذا يرجع بعض الاختلاف بينهما إلى الوراثة. ولاشك أيضا في أن البيئة السيكولوجية لأحدهما تختلف عن بيئة الآخر حتى إن كانا يعيشان في بيت واحد، ويذهبان إلى مدرسة واحدة، لذا يرجع بعض الاختلاف بينهما- خاصة في الصفات النفسية- إلى البيئة. إذاً، فالفارق بين فردين أو أكثر يرجع عادة إلى كل من الوراثة والبيئة. لكن أيهما أكثر أهمية في أحداث هذا الاختلاف، الوراثة أم البيئة؟ الجواب يتوقف على نوع الصفة التي نحن بصددها ... فإذا كنا بصدد صفات جسمية كالمظهر والحيوية، فأي اختلاف بينهما عند الميلاد يرجع إلى وراثة مختلفة؛ لأن المرجح أن تكون بيئة الرحم لكل منهما متشابهة. وحتى بعد الميلاد فاختلاف بيئة أحدهما عن بيئة الآخر لا يؤدي إلا إلى تغيرات جسمية سطحية. غير أننا إذا كنا بصدد قدرة كالذكاء، هنا قد تكون الوراثة عاملا هاما، لكننا لانستطيع التأكد من ذلك تأكدنا منه في حالة الصفات الجسمية، والطريق الوحيد لمعرفة الأثر النسبي لكل من الوراثة والبيئة في حالة الذكاء والشخصية وأمثالهما من الصفات ... هو إجراء التجارب ... وقد دلت التجارب على أن الفوارق الفردية ترجع: إما إلى الوراثة وحدها كالفوارق في لون العين. أو إلى البيئة وحدها كالفوارق في الاتجاهات، كالفوارق في الاتجاهات الاجتماعية والميول والصفات الخلقية أو إلى كل من الوراثة والبيئة بنسب متفاوتة كالفوارق في الذكاء، إلا في حالة التوائم الصنوية، إذ يرجع الاختلاف كله بينها إلى عوامل بيئية. "
وهكذا، يتبين لنا أن العوامل التي تتحكم في الفوارق الفردية، ولاسيما في حالة المقارنة بين أشخاص متعددين، قد تكون وراثية محضة، إذا كانت ذات طبيعة جينية أو خلوية أو فطرية، وقد تكون ذات عوامل بيئية، إذا كانت مرتبطة بماهو واقعي وموضوعي وخارجي واجتماعي ...
3 أنواع الفوارق الفردية
يتضمن الفصل الدراسي مجموعة من الفوارق الفردية المتنوعة والمختلفة، مثل: الفوارق العمرية، والفوارق الجنسية، والفوارق الوراثية، والفوارق الأسرية، والفوارق الكفائية، والفوارق الذكائية، والفوارق الاستعدادية، والفوارق النفسية، والفوارق الاجتماعية، والفوارق الاقتصادية، والفوارق الطبقية، والفوارق الفنية، والفوارق البيداغوجية، والفوارق الديداكتيكية، والفوارق الثقافية، والفوارق المعرفية، والفوارق الوجدانية والانفعالية، والفوارق الحسية- الحركية، والفوارق في التجارب الحياتية، والفوارق في التذكر والاسترجاع والاكتساب، والفوارق العرقية، والفوارق اللغوية، والفوارق الدينية، والفوارق الحضارية ... وهلم جرا.
وعليه، إذا سلمنا بأن الناس يتشابهون من حيث عملياتهم العقلية والمنطقية كما يقول العقلانيون، بما فيهم ديكارت الذي قال: إن العقل أعدل قسمة متساوية بين البشر،" فلا مفر من أن نعترف، دون حاجة إلى إجراء تجارب، بأنهم يختلفون اختلافا قد يكون كبيرا من حيث ما يتمتعون به من صفات جسمية وقدرات عقلية، وسمات خلقية واجتماعية: هذا قوي البنية أو حسن المنظر أو رشيق الحركة، وذلك رفيع الذكاء، أو ينعم بقدرة خطابية عالية، أو هو دون المتوسط في القدرة الرياضية أو الموسيقية ... هذا فضلا عما بينهم من تفاوت كبير في سمات شخصياتهم: أي: من حيث ميولهم واتجاهاتهم، ومستويات طموحهم، واتزانهم الانفعالي، ودرجة احتمالهم للإحباط والحرمان، أو درجة حساسيتهم للمشكلات الاجتماعية، أو مبلغ ما لديهم من تعاون أو مثابرة أو أمانة أو اعتماد على النفس. "
ويعني هذا - أولا- أن الفوارق الموجودة بين الأفراد على مستوى القدرات والسمات والطبائع هي فوارق كمية ليس إلا. بمعنى أن الاختلاف في الدرجة، وليس في النوع أو الجنس. وثانيا، "أن قدرات الفرد الواحد وسماته يختلف بعضها عن بعض من حيث القوة والضعف. أي: إن هناك فروقا في الفرد نفسه، كما أن هناك فروقا بين الأفراد. وثالثا، أن القدرات والسمات موزعة بين الأفراد توزيعا طبيعيا، بمعنى أن أغلبية الناس على درجة متوسطة من القدرة أو السمة، وأن قلة منهم من تعلو قدراته وسماته على المتوسط أو تكون دونه. ورابعا، أن الفروق الفردية قد ترجع إلى الوراثة أو إلى البيئة أو إليهما معا. "
وهكذا، يتبين لنا أن الفوارق الفردية متعددة ومختلفة ومتنوعة، قد تكون فوارق كمية أو فوارق نوعية، ولكن ما يهمنا من تلك الفوارق ما هو كمي، خاصة الفوارق التعليمية - التعلمية، مادمنا مرتبطين بالمجال التربوي والديداكتيكي.
4 مبادئ البيداغوجيا الفارقية
تنبني البيداغوجيا الفارقية على مجموعة من المبادئ والمرتكزات النظرية والتطبيقية التي يمكن حصرها في ما يلي:
(مبدأ الاختلاف: من المعلوم أن المتعلمين داخل الفصل الواحد أو الفصل الجماعي أو داخل القسم المشترك يختلفون من حيث مستوياتهم الدراسية، ومن حيث نسبة الذكاء المعرفي والذهني. كما تختلف ذكاءاتهم من شخص إلى آخر، ويختلفون من حيث الحالات النفسية، ويتباينون من حيث الوضعيات الاجتماعية والطبقية والاقتصادية. ومن ثم، يطرح هذا الاختلاف أمام المدرس مشاكل عديدة أثناء تدبير المقاطع الدراسية تخطيطا وإنجازا وتقويما.
مبدأ التنوع: تؤمن البيداغوجيا الفارقية بفلسفة التنوع والتنويع. لذا، تعمل هذه البيداغوجيا جاهدة لتفريق المتعلمين داخل الفصل الواحد أو داخل القسم المشترك، بناء على تنويع المناهج والمقررات والبرامج والدروس والمحتويات من جهة أولى، وتنويع الطرائق البيداغوجية والوسائل الديداكتيكية من جهة ثانية، وتنويع آليات التقويم والتوليف والدعم والإشهاد من جهة ثالثة، بغية تحقيق مدرسة النجاح، والحد من الإخفاق والهدر المدرسيين.
مبدأ دمقرطة التعليم: تعمل البيداغوجيا الفارقية على فلسفة الاختلاف والتنويع، لتحقيق مردودية إنتاجية فضلى على مستوى النتائج، وتفادي الفشل والهدر والانقطاع عن المدرسة بغية خلق مدرسة عمومية أو مدرسة خصوصية متساوية، وإفراز طبقات اجتماعية متقاربة ومتعايشة، حيث تضمن المؤسسة التربوية للجميع تكافؤ الفرص، فتؤهلهم بمجموعة من الكفايات والقدرات الإنمائية الأساسية لمواجهة التحديات والوضعيات الصعبة والمعقدة. ومن هنا، تسلحهم بالمعارف والمهارات والمناهج الضرورية من أجل التباري على مختلف المناصب والامتيازات التي يخولها لهم المجتمع.
مبدأ النجاح: تهدف البيداغوجيا الفارقية إلى تحقيق النجاح الحقيقي بتنويع البرامج والمناهج والمقررات والمحتويات والأهداف والكفايات، ومراعاة تنويع الأهداف والغايات، وتنويع الطرائق والوسائل الديداكتيكية، وتنويع مختلف وسائل التقويم والدعم والمعالجة والتصحيح، من أجل خلق متعلم كفء وقادر على مواجهة الوضعيات المهنية الصعبة أو الوظيفية داخل المجتمع. بمعنى أن البيداغوجيا الفارقية طريقة إجرائية ناجعة لتحقيق النجاح التربوي والاجتماعي، مع الحد من الفشل والهدر الدراسيين.
مبدأ التفريد: ويقصد بهذا احترام المدرس لخصوصيات المتعلم الذهنية والمعرفية والذكائية والوجدانية والحركية، ومراعاة أحواله النفسية الشعورية واللاشعورية، والانطلاق مما يميزه ويفرده عن باقي المتعلمين الآخرين نفسيا واجتماعيا واقتصاديا وطبقيا وثقافيا، مع تنويع الدروس والطرائق والوسائل الديداكتيكية، وتفريد أساليب التقويم والمعالجة بغية فهم فرادة المتعلم وتفسيرها، ومعالجتها تقييما وتصحيحا من أجل مساعدته على تحقيق النجاح والتميز والتكيف الدراسي والاجتماعي بطريقة إيجابية.
مبدأ التفريق: ويعني تفريق المتعلمين داخل القسم الجماعي في ضوء الأهداف والكفايات، والمحتويات والمضامين، والطرائق البيداغوجية، والوسائل الديداكتيكية، ووسائل التقويم والدعم والمعالجة والتصحيح.
مبدأ الذكاءات المتعددة: تعد نظرية الذكاءات المتعددة من أهم النظريات السيكولوجية والتربوية المعاصرة، وقد جاءت رد فعل على التصور البياجوي (جان بياجيه/ Jean Piaget) الذي يؤمن بأحادية الذكاء الرياضي المنطقي الذي يعد نموذج الفكر الإنساني، وغلو جان بياجي في النزعة العقلانية الموحدة للعقل الإنساني بالمفهوم الديكارتي (العقل أعدل قسمة متساوية بين البشر) ، ناهيك عن استبعاده لعوامل الوسط والفوارق الفردية. وعلى العكس من ذلك، تؤمن نظرية الذكاءات المتعددة لهوارد غاردنر (Howard Gardner) بوجود ذكاءات متعددة ومتنوعة ومستقلة لدى المتعلم، يمكن صقلها وشحذها بالتشجيع والتحفيز والتعليم والتدريب، وتنمية المواهب والعبقريات والمبادرات. بمعنى أن نظرية الذكاءات المتعددة تؤمن بعبقرية المتعلم، وقدرته على العطاء والإنتاج والابتكار والإبداع، وحل المشاكل الصعبة، ومواجهة الوضعيات المعقدة.
مبدأ التعلم الذاتي: تعمل البيداغوجيا الفارقية على تعويد المتعلم على التعلم الذاتي، وتمثل العمل الشخصي، والتسلح بمختلف القدرات الكفائية الضرورية لمواجهة الوضعيات الصعبة والمعقدة، والاعتماد على النفس في الاستذكار والمراجعة والاستكشاف، والمشاركة داخل القسم، والتعامل بفردية جدية مع الأنشطة والتمارين والفروض والامتحانات التقويمية والإشهادية. وفي هذا الصدد، يقول ميريو (PH.Meirieu) : "لن نخرج من البداهة القائلة: إن التلميذ هو الذي يتعلم ويعلم نفسه بنفسه. إنه يتعلم بطريقته، كما لو أنه لم يتعلم أبدا ... يتعلم بتاريخه منطلقا مما هو عليه وما يعرفه. لاوجود لبيداغوجيا تقتصد في هذه الظاهرة؛ حيث إن على كل بيداغوجيا أن تتأصل في التلميذ، في معارفه الاختبارية وتمثلاته ومعيشه. أن تتعلم تعني دوما التوريط والالتزام المتنامي للتوريط الأول للاقتراب من التجريد. إنه مسار متفرد لا يعوضك عنه أحد؛ ولذلك يؤكد جميع البيداغوجيين على أنه من اللائق الانطلاق من التلميذ، من حاجاته ومصالحه. ويضيفون بأن الأمر لا يجب أن يتوقف هنا، بل يجب أن نزوده بالأدوات ليتجاوز حاجاته ومصالحه، والسماح له بالوصول لتمثلات صافية ومعارف علمية."
هذا، ولن يتحقق ذلك التعلم الذاتي إلا في ضوء البيداغوجيا اللاتوجيهية، أو البيداغوجيا المؤسساتية، أو البيداغوجيا الإبداعية، أو بيداغوجيا الذكاءات المتعددة، أو بيداغوجيا المشروع، أو بيداغوجيا التعاقد، أو بيداغوجيا الأهداف والكفايات، أو بيداغوجيا الشراكة، أو في إطار مدرسة النجاح والحياة المدرسية ...
مبدأ التنشيط: للتنشيط أهمية كبرى في مجال التربية والتعليم؛ لكونه يرفع من المردودية الثقافية والتحصيلية لدى المتمدرس، ويساهم في الحد من السلوكيات العدوانية، والقضاء على التصرفات الشائنة لدى المتعلمين، ومراعاة الفوارق الفردية. كما يقلل من هيمنة بيداغوجيا الإلقاء والتلقين، ويعمل على خلق روح الإبداع، والميل نحو المشاركة الجماعية، والاشتغال في فريق تربوي.
مبدأ الإنتاجية: تهدف البيداغوجيا الفارقية إلى تحقيق الإنتاجية والإبداعية والابتكار، وتنمية القدرات والكفايات الأساسية، وتطوير الذكاءات المتعددة لدى المتعلم، وصقلها نظريا وتطبيقيا ووظيفيا، وهذا كله من أجل خلق مدرسة منتجة ومبدعة وفاعلة، تساهم في بناء قدرات الوطن لكي يكون قادرا على التنافس والتقدم والنمو.
5 خصائصها
تتسم البيداغوجية الفارقية بمجموعة من المميزات والخصائص والسمات الرئيسة والثانوية، وهي:
البيداغوجيا الفارقية آلية صالحة في مجال الإرشاد التربوي والتوجيه المهني والتعليمي. وفي هذا الصدد، يقول أحمد عزت راجح:" كما يختلف الأفراد بعضهم عن بعض من حيث قدراتهم وسماتهم الشخصية، كذلك تختلف قدرات الفرد الواحد وسماته من حيث القوة والضعف. فقد يكون الفرد رفيع الذكاء، لكنه ضعيف الإرادة، أو سيء الخلق، أو مصابا بعرض نفسي. وقد يكون متفوقا في القدرة الموسيقية، ودون المتوسط في القدرة اللغوية، أو يكون ماهرا في إدارة الآلات، وغير ماهر في إدارة الناس، ماهرا في الرسم وغير ماهر في الخطابة، أو يكون شديد الميل إلى دراسة العلوم الاجتماعية، بادي النفور من دراسة العلوم الرياضية، وقد يكون لديه استعداد كبير للأعمال الكتابية، واستعداد ضعيف للأعمال الميكانيكية. أو أن يكون ذا قدرة كبيرة على احتمال الألم الجسمي، لكنه ضعيف الاحتمال للألم النفسي، وقد يكون ولوعا بالقراءة، هلوعا من الاختلاط بالناس. ولعلك سمعت بأولئك الأشخاص الذين يستطيع أحدهم أن يجري في ذهنه، ودون استعانة بالقلم والورق، عمليات ضرب لستة أرقام في سبعة أرقام، أو استخراج الجذر التربيعي أو التكعيبي لأعداد كبيرة ... هؤلاء الأشخاص قد يكون مستواهم دون المتوسط في الذكاء العام، ودون المتوسط بكثير في القدرة اللغوية.
وبناء على هذا، فمن يصلح لدراسة أو لعمل معين قد لايصلح لدراسة أو لعمل آخر. ومن يفشل في دراسة أو عمل معين لا يتحتم أن يفشل في أعمال أخرى، ومن يكون بارزا نابها في عمل لا يتحتم أن يحتفظ بمركزه هذا أن نقل أو رقي إلى عمل آخر- وهذه حقيقة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في عمليات التوجيه التعليمي والمهني والاختيار والتدريب المهني وفي توزيع الطلاب على الشعب الدراسية المختلفة أو على الكليات الجامعية المختلفة، وكذلك في عمليات التعيين والنقل والترقية للعمال والموظفين. "
البيداغوجيا الفارقية هي بيداغوجيا تنافسية قائمة على فلسفة التنويع والاختلاف والكفاءة، وهي أيضا بيداغوجيا تحفيزية تشجع المتعلمين على العمل والتعلم والابتكار والإبداع. وفي هذا النطاق، يقول أحمد عزت راجح:" الواقع أن الشخص العادي لا يستطيع أن يدرك ما بين الناس من فوارق ضخمة في الذكاء، والقدرات الشخصية. فآباء الأطفال الموهوبين لا يعرفون في الغالب مستوى أطفالهم الرفيع من الذكاء، وآباء الأطفال المتخلفين لا يدركون في الغالب مدى ما يعانيه أطفالهم من قصور عقلي حتى يبدأ الطفل في التعثر الدراسي الموصول. ولقد قيل: إن الفرق بين ذكاء الشخص المتوسط في يومنا هذا وبين ذكاء أرسطو كالفرق بين ذكاء القرد المتوسط والإنسان المتوسط. الواقع أن الفوارق بين الناس في الذكاء على درجة من الاتساع، حيث يكون القرد المتوسط أكثر ذكاء من الإنسان المعتوه ضعيف العقل .. كذلك الحال فيما بين الناس هي فوارق في الشخصية والخلق والمزاج .. من مدير الأعمال الذي ينظم ويوجه ويقترح وينتقد إلى العامل الرعديد الذي يخشى تحمل أقل قدر من المسؤولية .. ومن الشخص الطيب الذي يحاسب نفسه على الكلمة التي تصدر منه والحركة التي يأتي بها إلى المجرم العاتي الذي لا تغشاه مسحة من الشعور بالذنب لما يرتكبه من أعمال غير إنسانية نكراء.
وفي مجتمعنا اليوم من الممكن أن نساوي بين الناس في الحقوق والفرص، لكنه من غير الممكن أن نساوي بينهم في القدرات العقلية والسمات المزاجية بما يجعلهم قادرين على التنافس العادل المشروع بين بعضهم وبعض، كما نستطيع أن نتيح لكل منهم فرصة التعلم والعمل، لكننا لا نستطيع أن نساوي بينهم في نوع التعليم أو العمل أو الأجر."
6 أهدافها
تنبني البيداغوجيا الفارقية على مجموعة من الأهداف والغايات، ويمكن تحديدها في القائمة التالية:
7 تاريخها
لقد انطلق الاهتمام الأولي بالبيداغوجيا الفارقية منذ بداية القرن العشرين، في إطار الاهتمام السيكولوجي بمقاييس العقل، ووضع الروائز المختلفة لقياس نسبة التعلم والاكتساب والاستيعاب، والتمييز بين المتعلمين على مستوى الذكاء العقلي. وكانت التطبيقات الأولى في هذا المجال تلك التجارب التربوية المرتبطة بمشروع بلان دالتون (Plan Dalton) سنة ١٩١٠ م، وقد طبقتها المربية الأمريكية هيلين باركهورست (Helen Parkhurst) ، بالتركيز على فصل دراسي يتكون من أربعين تلميذا من أعمار مختلفة، فشرعت باركهورست في تقديم أنشطة فردية مختلفة ومتنوعة ومتعددة، تتلاءم مع قدرات كل تلميذ على حدة. وقد ترتب عن ذلك ظهور البيداغوجيا الفارقية. ومن جهة أخرى، استفادت البيداغوجيا الفارقية، بشكل من الأشكال، من طريقة ونيتكا (Winnetka) سنة ١٩١٣ م، اعتمادا على التصحيح الذاتي، والاشتغال في فريق جماعي.
هذا، وقد انتقلت هذه الطريقة التربوية الأمريكية إلى أوروبا مع انبثاق التربية الحديثة القائمة عل الحرية، واللعب، والتعلم الذاتي، والاستقلالية، وتعلم الحياة عن طريق الحياة، وتمثل الفكر التعاوني، والاسترشاد بديمقراطية التعليم والتعلم ... وأيضا مع ظهور الطرائق الفعالة القائمة على التنشيط البناء والهادف، وتجريب آليات تربوية وديداكتيكية جديدة ومعاصرة مبنية على آخر مستجدات البيولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع ...
وهكذا، فقد تمثلها روبير دوترانس (Robert Dottrens) في مدرسته ميل (Mail) بجنيف، وقد طبقها أيضا سليستين فرينيه (C.Freinet) في مدرسته التنشيطية القائمة على الفكر التعاوني، وإنشاء المطبعة، وتحرير جريدة المدرسة لرصد مختلف الفوارق الفردية بين المتعلمين، وإيجاد الحلول المناسبة لذلك، فضلا عن وضع قوائم للمدرسة التفريدية. بيد أن الشخص الحقيقي الذي نحت مصطلح البيداغوجيا الفارقية هو لوي لوكران (Louis Legrand) ، في سنوات السبعين من القرن الماضي؛ إذ وجد نفسه أمام مشكل تربوي عويص ألا وهو وجود متعلمين مختلفين ومتميزين ذهنيا وعقليا ووجدانيا وحركيا، داخل فصل دراسي واحد، وأمام مدرس واحد، مع وجود مقررات وبرامج دراسية واحدة. وبطبيعة الحال، أثار هذا التوحيد مشاكل كثيرة أمام التلاميذ الذين تختلف بيئاتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية، حيث لا يستطيعون استيعاب المقررات والدروس بالوتيرة نفسها. فهناك تلاميذ متميزون يستوعبون الدروس بسرعة فائقة، وهناك من يستوعبها ببطء، وهناك من لا يستوعبها إطلاقا، وهناك معوقون ذهنيا أو لغويا أو حركيا ... ومن ثم، فالتربية القائمة على التوحيد غير صالحة في هذا المجال. ومن هنا، فقد أضحت البيداغوجيا الفارقية هي الحل المناسب لهذه المعضلة التربوية .
وينضاف إلى ذلك، أن تبلور إصلاح تربوي جديد منذ ١٩٧٥ م، ويسمى بإصلاح آبي (Reforme Haby) ، ويهدف إلى القضاء على الفوارق الفردية، وخلق إعدادية موحدة، من خلال القضاء على المدرسة ذات الشعب والمسالك المتعددة، وإعطاء الأهمية للأقسام لا للشعب والتخصصات والمسالك. في حين، يميز فيليب ميريو (Philippe Meirieu) بين التفريق والتفريد من جهة، وبين جماعات الحاجة وجماعات المستوى . ومن ثم، تراعي البيداغوجيا الفارقية خصائص كل متعلم داخل جماعة القسم. بمعنى أن المتعلم يتطور وينمو ذهنيا ومعرفيا ووجدانيا وحركيا داخل الفصل الدراسي، ولا يمكن عزل التلميذ عن باقي الجماعة، مهما كانت عوائقه الاستيعابية. بمعنى أن التلميذ يتعلم داخل الجماعة المتنوعة والمختلفة. وبهذا، يكون التعليم ليس فارقيا بشكل من الأشكال، حيث نخلق نوعين من الجماعة داخل الفصل الدراسي: جماعة الحاجة وجماعة المستوى، من أجل خلق فرص العمل والمساعدة والتعاون والتنافس الإيجابي. أي: إن جماعات المستوى في خدمة جماعات الحاجة، والعكس صحيح أيضا في مجالات أخرى يبرز فيها الضعاف من التلاميذ.
وقد ظهرت - اليوم- مجموعة من الدراسات التربوية الغربية تهتم بالبيداغوجيا الفارقية لكل من: فيليب بيرنود (Philippe PERRENOUD) ، في دراسته (البيداغوجيا الفارقية من المقاصد إلى العمل) ، وماريك فيليب (Marhic Philippe) في (التعليم الفردي: محاولة لفهم الفشل الدراسي) ، وسابين كاهن (Sabine Kahn) في (البيداغوجيا الفارقية) ، وباتو وبينسيمون (Battut, E., & Bensimon, D.) في (كيف تراعى الفوارق الفردية في التربية) ، وبرزيسمكي (Przesmycki, H.) في (البيداغوجيا الفارقية) ، وزاخارتشوك (Zakhartchouk) في كتابه (من أخطار البيداغوجيا الفارقية) ...
وتأسيسا على ما سبق، تطورت الدراسات التي تندرج ضمن البيداغوجيا الفارقية ابتداء من سنوات الثمانين من القرن العشرين حتى سنوات الألفية الثالثة، مع تطبيق نظرية الأهداف، ونظرية الكفايات، والاستعانة بنظرية الذكاءات المتعددة، وتمثل بيداغوجيا الإدماج، والأخذ بالسيكولوجيا المعرفية.
8 مرجعياتها
تعتمد البيداغوجيا الفارقية، نظرية و تطبيقا، على مجموعة من المرجعيات العلمية والمعرفية والفلسفية والتربوية والمنهجية، فلا يمكن-إذاً-، بأي حال من الأحوال، إغفال التوجهات السياسية التي تتحكم في التربية والتعليم. فمنذ العصور الوسطى، كانت المدرسة التقليدية مدرسة موحدة في برامجها ومناهجها ومقرراتها ومحتوياتها وطرائقها البيداغوجية ووسائلها الديداكتيكية، لا تراعي الفوارق الفردية بين المتعلمين، لأن توحيد السياسة التعليمية- التعلمية هو في الحقيقة اختيار سياسي إيديولوجي، وانعكاس لسياسة التوحيد على مستوى السلطة والسيادة، وبناء الدولة الواحدة الموحدة.
هذا، ويعد المغرب- مثلا- من الدول التي رفعت مبدأ التوحيد في التربية والتعليم بعد الاستقلال مباشرة، إذ قررت الدولة تطبيق نظرية البديل الوطني، بدل اتباع سياسة التعليم الطائفي التي طبقها المحتل الفرنسي في مجال التربية والتعليم. لذا، أنشئت اللجنة الملكية لإصلاح التعليم، فعقدت أول اجتماع لها يوم ٢٨ شتنبر ١٩٥٧ م. وقد أقرت اللجنة المبادئ الأربعة الكبرى لإصلاح التعليم، وهي: التعميم، والتوحيد، والتعريب، والمغربة. والهدف من هذه المبادئ الأربعة هو تحقيق التنمية المجتمعية الشاملة [١] . ومن ثم، "فإن النتائج العملية لحصيلة الحكومات المغربية في السنوات الأولى من الاستقلال في ميدان التعليم قد جاءت متناقضة مع المذهب التعليمي الذي تم إقراره، والذي اعتمدت فيه المبادئ الأربعة (التعميم، والتوحيد، والتعريب، والمغربة) التي حظيت بالإجماع الوطني. ولم تكن الوضعية تخفى على أحد، بل لقد كانت موضوع تشهير من طرف الأحزاب والنقابات واتحاد الطلاب التي ظلت جميعها توظف، بشكل واسع، مشكل التعليم في كفاحها السياسي والنقابي. وعلى الرغم من إنشاء المجلس الأعلى للتربية الوطنية، في يونيه من عام ١٩٥٨ م، والذي كان يتألف من ممثلي وزارة التعليم والوزارات الأخرى المختصة إلى جانب ممثلي القوى الوطنية المذكورة، هذا المجلس الذي أريد منه أن يكون مجلسا تستشيره كافة المراجع العليا في وزارة التربية الوطنية، فيما ترمي إلى تحديده من سياسة في ميدان التعليم والثقافة، فإن السياسة التعليمية في المغرب بقيت إلى حدود سنة ١٩٦٠ م خاضعة لما يمليه الأمر الواقع. وبعبارة أخرى، إن المبادئ الأربعة الوطنية لم تعتمد كمبادئ لتخطيط عام إلا مع المخطط الخماسي الأول ١٩٦٠ - ١٩٦٤ الذي دشن انطلاقة حقيقية بقيت امتداداتها تنعكس على السنوات اللاحقة، حتى بعد أن تم التراجع عنه."
وعليه، لم يكن مبدأ التوحيد سوى مبدأ سياسي ليس إلا، لايراعي الفوارق الفردية الموجودة بين المتعلمين داخل الفصل الدراسي، ولا يميز بين هؤلاء ذهنيا ووجدانيا وحركيا ونفسيا واجتماعيا ... ه
ذا، وتنطلق المقاربة الاجتماعية، في تعاملها مع الفوارق الفردية، من منظور سياسي واجتماعي وطبقي وإيديولوجي، بتمثل مجموعة من المفاهيم والمصطلحات، مثل: الانتقاء، والاختيار، والتوجيه المهني، وتكافؤ الفرص، والتأهيل الكفائي، والمساواة الشكلية، والمساواة الحقيقية، والمساواة الاجتماعية، والإخفاق الدراسي، والتعليم المهني، والتعليم العالي، والمدرسة العمالية، والمدرسة العالمة ...
وهكذا، يرى كل من بيير بورديو (P. Bourdieu) وكلود باسرون (C.Passeron) أن المدرسة ذات وظيفة صراعية، تعكس، بكل جلاء، التطاحن الاجتماعي، والتفاوت الطبقي، وتعيد لنا إنتاج الورثة؛ لأن النظام التربوي "يتطابق كل التطابق مع المجتمع الطبقي، وبما أنه من صنع طبقة متميزة تمسك بمقاليد الثقافة. أي: بأدواتها الأساسية (المعرفة، المهارة العلمية، وبخاصة إجادة التحدث) ، فإن هذا النظام يهدف إلى المحافظة على النفوذ الثقافي لتلك الطبقة. والبرهان الذي قدمه هذان المفكران يبرز التناقض بين هدف ديمقراطية التعليم الذي يطرحه النظام، وعملية الاصطفاء التي تقصي طبقة اجتماعية ثقافية من الشباب، وتعمل لصالح طبقة الوارثين." [١]
ويترتب على هذا أن المدرسة الوطنية هي مدرسة غير ديمقراطية، تخدم مصالح الطبقة الحاكمة والأقلية المحظوظة. وما التعليم العمومي، والتعليم الخصوصي، والتعليم النظري، والتعليم المهني، سوى تعبير عن تكريس التفاوت الاجتماعي، وتحويل المؤسسة التربوية إلى فضاء للتمييز اللغوي والعنصري، ومكان للتطاحن الاجتماعي، والتناحر الطبقي، والتمايز اللغوي.
وإذا كان إميل دوركايم (Durkheim) ينطلق من رؤية محافظة في تحليل النظام التربوي في علاقته بما هو اجتماعي وسياسي، فإن لوي ألتوسير (L.Althusser) يرى بخصوص "التقنيات والمعارف، أنه يجري في المدرسة تعلم قواعد تحكم الروابط الاجتماعية بموجب التقسيم الاجتماعي التقني للعمل.
كما يقول بأن النظام المدرسي، وهو أحد أجهزة الدولة الإيديولوجية، هو الذي يؤمن بنجاعة استنساخ روابط الإنتاج، عن طريق وجود مستويات من التأهيل الدراسي، تتجاوب مع تقسيم العمل، وعن طريق ممارسة الإخضاع للإيديولوجيا السائدة. إن المسالك الموجودة في المدرسة هي انعكاس لتقسيم المجتمع إلى طبقات، وغايتها الإبقاء على الروابط الطبقية."
ومن جهة أخرى، يرى بودلو (C.Baudelot) وإستابليه (R.Establet) أن المدرسة إيديولوجية وطبقية وغير ديمقراطية، تكرس التقسيم الاجتماعي لوجود "شبكتين لانتساب الطلاب إلى المدارس، يحددهما الفصل بين العمل اليدوي والعمل الفكري، ثم التعارض بين طبقة مسيطرة، وأخرى خاضعة للسيطرة" .
وبما أن المدرسة الليبرالية مدرسة طبقية وغير ديمقراطية، فإنها في الدول المتخلفة والمستبدة تكرس سياسة التخلف والاستعمار، وتساهم في توريث الفقر والبؤس الاجتماعي؛ مما جعل إيفان إليتش (Ivan Ilitch) يدعو إلى إلغاء هذه المدرسة الطبقية غير الديمقراطية، في كتابه (مجتمع بدون مدرسة) .
فنظرية موت المدرسة - حسب غي أفانزيني- هي في الحقيقة نظرية "تأثرت تأثرا كبيرا بالعوامل الجغرافية التي أحاطت بها، والتي قد تجعل منها نظرية صالحة لبلدان أمريكا اللاتينية، غريبة كل الغرابة عن المنطق التربوي للغرب. ولاسيما أننا نجد فيها بعض التساؤلات التي تؤيد مثل هذا التفسير الذي يقصرها على بلدان بعينها، ذلك أن السيد إيليش ينزع أحيانا إلى القول بأن المدرسة ملائمة للعصر الصناعي، وأنها من إرث هو مخلفاته، وينبغي أن تشجب فقط في البلدان المتخلفة، حيث لاتستطيع أن توفر الانطلاقة اللازمة لها، وحيث يكون حذفها شرطا لازما لحذف الاستعمار، والقضاء عليه، على أنه في أحيان أخرى يطلق أحكاما تنادي بالقضاء عليها قضاء جذريا، ويرى فيها مؤسسة بالية أنى كانت" . [٢]
هذا أن العوامل الاجتماعية بدورها تتحكم في هذه البيداغوجيا الفارقية باعتبارها خلفية سياقية، مادام المجتمع عبارة عن نسق هرمي تراتبي، يعرف بدوره تفاوتا طبقيا واجتماعيا ملحوظا، إذ يمكن الحديث عن الطبقة البورجوازية، والطبقة الوسطى، والطبقة الدنيا، والطبقة المعوزة والفقيرة. ومن ثم، يوحي هذا التفاوت بتكريس سياسة الفوارق بين الأفراد والأسر داخل مجتمع واحد.
أما المقاربة الاقتصادية، فتتعامل مع الفوارق الفردية تعاملا ليبراليا انتقائيا واصطفائيا، بالتركيز على الكفاءة والجودة والإنتاجية والمردودية والامتياز والتمهير، بغية التأقلم الإيجابي مع سوق العمل. بمعنى أن الاقتصاد المعاصر لا يعترف إلا بالقدرات الكفائية والأطر الحرفية الماهرة. وبما أن هذا الاقتصاد يؤمن بالجودة والمردودية فلابد -إذاً- من تمثل مقياس الاختيار والانتخاب والانتقاء، باستعمال الاختبارات والمقاييس والمقابلات لتعيين المرشحين الأكفاء في الأماكن والمناصب المناسبة.
ومن جهة أخرى، تهتم مجموعة من التيارات الفلسفية، بما فيها الرومانسية والعقلانية والوجودية والشخصانية ... ، بالإنسان الفرد الذي يتمتع بالحرية، والاستقلالية، والقدرات العقلية الوراثية. ومن ثم، تراعي هذه التيارات خصائص الفرد المتعلم وقدراته العادية وغير العادية، وما يميز شخصيته عن باقي الشخصيات الأخرى تفريدا وتخصيصا وتمييزا.
و إذا كانت السيكولوجيا العامة (علم النفس العام) تبحث عن مظاهر التشابه والائتلاف بين الأفراد، كدراسة الإدراك والتفكير والتذكر والتعلم ... ، فإن السيكولوجيا الفارقية (علم النفس الفارقي) تبحث عن مظاهر الاختلاف والافتراق بين البشر على مستوى الاستعدادات والميول والاتجاهات والذكاء .... بمعنى أن علم النفس الفارقي "يدرس ما بين الأفراد أو الجماعات أو السلالات من فوارق في الذكاء أو الخلق أو الشخصية أو الاستعدادات والمواهب الخاصة. كما يدرس أسباب هذه الفوارق ونتائجها مستندا إلى الحقائق التي يكشف عنها علم النفس العام. فإذا كان علم النفس العام يبين لنا كيف تتشابه الأفراد، فعلم النفس الفارق يبين لنا كيف يختلفون، وإلى أي حد يختلفون. "
وعليه، تؤمن السيكولوجيا المعرفية أو علم النفس الفارقي أن ثمة فوارق طبيعية ووراثية وفطرية بين الأفراد. ومن ثم، فليس هناك أفراد متشابهون في السمات والطباع والأمزجة والعادات، بل كل واحد منا ما يميزه ويفرده عن الآخر، حتى بصمة الفرد تختلف عن بصمة الفرد الآخر. علاوة على اختلاف الجينات الوراثية من شخص إلى آخر. وهذا يؤثر بطبيعة الحال سلبا أو إيجابا في مستوى الاكتساب والاستيعاب والتحصيل الدراسي. ومن ثم، فلا يوجد شخصان - حسب بيرنس- "يتقدمان بالسرعة نفسها في تعلمهما، ويستعملان تقنيات الدراسة نفسها، ويمتلكان قائمة السلوك نفسها، ويحلان المشاكل بالطريقة نفسها، ويمتلكان قائمة السلوك نفسها. فهناك- مثلا- من الأطفال من يتعلم القراءة والكتابة بوتيرة سريعة. ومنهم من يجد صعوبة في اكتساب هذه القدرات، ويحتاج إلى وقت أطول وإيقاع بطيء للتمكن من ناصيتها. لذلك، كان من العبث كما يقول فيليب ميريو أن ننتظر من جميع التلاميذ النتائج نفسها. "
ويمكن الحديث أيضا عن علم نفس فارقي يدرس مختلف الترابطات السيكواجتماعية التي تربط الفرد بمحيطه الموضوعي، بالتركيز على الفوارق الفردية والاجتماعية، وتبيان قوانينها التي تتحكم فيها. ومن ثم، " فالمعطيات التي يستوحيها الديداكتيك من علم النفس الفارقي، معطيات متنوعة؛ تتعلق بالفوارق المذكورة أعلاه وبالذكاء والقدرات الخاصة. وكذلك التطبيقات والاختبارات والروائز لقياس القدرات العقلية، وبالتالي جعل المدرس يعرف ما يمكن أن يبذله من مجهود في مكان معين، وفي وضعية تعليمية معينة. كما أن علم النفس الفارقي يفيد في معرفة ما يصلح لمستوى دراسي دون آخر، أو لطفل دون آخر، أو لمادة دون أخرى، وتأسيسا على معطيات هذا العلم وغيره من العلوم المنتمية لجذع السيكولوجيا أو لحقول معرفية أخرى كالسوسيولوجيا والاقتصاد والتاريخ والديمغرافيا- تأسيسا على ذلك كله- يوجه كل تلميذ إلى التخصص الذي يناسبه، ويتم بناء المناهج من منظور الاختلاف، وواجب احترام الخصوصيات المحلية، واعتماد المقاربات الماكروسكوبية."
علاوة على هذا، اهتمت السيكولوجيا المعرفية بالفوارق الفردية أثناء رصد مختلف العمليات الذهنية أو العقلية التي يقوم بها الإنسان. ويعني هذا أن السيكولوجيا المعرفية تهتم بالعقل والذهن والدماغ البشري بفصيه الأيمن والأيسر. كما تدرس أنواع الذكاء الذي يمتلكه الإنسان، وتعداد المراحل التي يمر بها في علاقة الذات مع الموضوع كما عند جان بياجيه، أو البحث عن الكفاءة اللغوية عند مستعمل الكلام كما عند نوام شومسكي، أو تصنيف الذكاءات المتعددة كما عند هوارد غاردنر. وأكثر من هذا، أصبح العقل مثل حاسوب مركب، يقوم بعمليات ذهنية متنوعة ومتعددة. ومن ثم، أصبح العقل هو مدار الدراسة من خلال التشديد على مدخلاته وعملياته ومخرجاته. وبهذا، تتجاوز السيكولوجيا المعرفية المدرسة السلوكية التجريبية التي كانت تدرس السلوك الخارجي انطلاقا من المثير والاستجابة.
وهكذا، نجد المدرسة السيكولوجية المعرفية [٢] تدرس الوظائف النفسية التي يقوم بها الكائن البشري على مستوى: الذاكرة، والاستدلال، والانتباه، واللغة، والذكاء، والتمثلات، والإدراك، والمعرفة، والإبداعية، والعبقرية، وكيفية التعلم، وحل المسائل ... ويعني هذا أن السيكولوجيا المعرفية هي التي تعني بدراسة مجموعة الأنشطة الذهنية والعقلية التي يقوم بها الإنسان، مع رصد المسارات المعرفية، وتحديد الوظائف التي تقوم بها. أي: تهتم بالعقل والذهن، ولاتهتم بالسلوك الخارجي [٣] .
ومن أهم رواد السيكولوجية المعرفية: كلارك هول (Clark Hull) ، وإدوارد تورمان (Edward Tolman) ، وجورج ميلر (Georges Miller) ، وبرونير (Bruner) ، ونيسر (Neisser) ، وجان بياجيه (J.Piaget) ، ونوام شومسكي (N.chomsky) ، وهوارد غاردنر (H.Gardner) ...
ومن ناحية أخرى، تعد نظرية الذكاءات المتعددة من أهم النظريات السيكوبيداغوجية التي استطاعت تحقيق قطيعة معرفية مع النظريات التربوية السابقة؛ لأنها تنبني على الإنتاج والابتكار والإبداعية، ومراعاة الفوارق الفردية، وتمثل فلسفة التنشيط، وخلق المواهب والمبادرات والعبقريات، واستكشاف ذكاءات المتعلمين واستثمارها في الأنشطة والتمارين الكفائية التي تزود المتعلم بالمهارات والقدرات لحل المشاكل، وإيجاد مشكلات أخرى، وإنتاج قيم وأفكار وخدمات جديدة حداثية وأصيلة. وما تزال نظرية الذكاءات المتعددة قابلة للتطوير والتغيير والإثراء، كما يقول صاحبها هوارد غاردنر: "أتمنى تطوير النظرية في اتجاهات مختلفة. لكن ما يهمني بشكل أساسي أن نفهم كيف يمكن لطفل استعمال ذكائه أو ذكاءاته بهدف التحكم الجيد في المواد الدراسية، و يجد له مكانة داخل المجتمع وتطويرها .. علاوة على ذلك أتوخى مستقبلا اكتشاف ذكاءات أخرى، وفهم الكيفية التي تشتغل بها. وأريد بطبيعة الحال أن أعرف بشكل جيد كيف يتم التعبير عن الذكاء نفسه داخل مختلف الأوساط الثقافية. وأود كذلك معرفة كيف تتمكن الذكاءات المتعددة من الاشتغال بيسر وسهولة، وكيف يمكن تنميتها منفصلة عن بعضها، وفي ارتباط بعضها البعض، وكذا استكشاف العلاقات الموجودة بين الذكاءات والابتكار والقيادة.
أما بالنسبة إلى الطرائق المسدودة التي ينبغي تجنبها، أرى واحدة هي أهمها: لا ينبغي السعي من أجل المقارنة بين المجموعات بمصطلحات الذكاء (كالمقارنة بين الرجال والنساء أو بين المجموعات العرقية، إلخ .. ) نظرا إلى المخاطر المترتبة على وقائع محرفة. وكمثال على ذلك، أنه في استراليا تم وضع لائحة لكل مجموعة عرقية، من خلال جزء من الأدوات المدرسية المعتمدة من طرف إحدى الولايات. وداخل كل لائحة تم تحديد الذكاءات التي تتفوق وتضعف فيها كل مجموعة بدون أي سند علمي. اعتبرت ذلك انزلاقا، وأعلنت موقفي في برنامج بالتلفزة الأسترالية. وفي اليوم التالي، مباشرة بعد تصريحي، قام الوزير الأول بإلغاء هذا" الخلط "التربوي الذي يتأسس على الوهم العلمي."
وعليه، فليست" نظرية الذكاءات المتعددة - حسب هوارد غاردنر- غاية في ذاتها، بل هي أداة للمدرسين المتبصرين الذين يسعون إلى تطوير قدرات معينة لدى تلامذتهم. مثلا: إذا كنا نبتغي أن يكون الأطفال متخلقين فيما بينهم، سنحتاج إلى تنمية ذكائهم الشخصي. بالإضافة إلى ذلك، طبعا، تمكن هذه النظرية من تحسين تقديم المواد الدراسية، مثلا: إذا كان على كل تلميذ أن يتلقى مادة التاريخ أو الجغرافية، فليس هناك أي مبرر كي يتعلم كل واحد هذه المواد بالطريقة نفسها أو يخضع للتقييم نفسه.
لقد مكن مشروع الطيف من تعيين جوانب التفوق المتميزة لدى العديد من الأطفال، وكان من الممكن أن تبقى مجهولة بدون ذلك؛ فأثناء القيام بإحدى التحريات مع فريقي في البحث صادفنا طفلا في السادسة من عمره، ينحدر من أسرة مفككة، ويواجه خطرا كبيرا ناتجا عن الفشل الدراسي، وبحكم أن نتائجه لم تتغير خلال حصص التحضيري، فقد قررت مدرسته إجباره على التكرار بعد شهرين من حضوره داخل فصلها. ومع ذلك، فقد كان الطفل ناجحا بشكل يفوق الآخرين في فك تركيب مواد مستعملة وإعادتها. بعد تصويره، وهو يقوم بأنشطة عرضت سلسلة اللقطات المصورة على معلمته، وكم كان ذهول هذه الأخيرة كبيرا جراء ما رأت! إلى درجة أنها لم تذق راحة النوم لمدة ثلاث ليال. منذ تلك اللحظة غيرت بشكل جذري نظرتها حول الطفل، وبدأت النتائج المدرسية لهذا الأخير تتحسن بشكل ملموس".
ومن هنا، فنظرية الذكاءات المتعددة طريقة إبداعية تؤمن بالتنشيط المدرسي والحياة المدرسية السعيدة، وتعترف بالفوارق الفردية بين المتعلمين، وتكشف نوع الذكاء لدى المتعلم، وتتسم طرائقها الديداكتيكية بالفاعلية والمعنى والتشويق، مادامت تسعى إلى تعزيز النمو الإدراكي لدى المتعلم، والانطلاق من فلسفة التنشيط، والاستفادة من آخر البحوث التي أجريت على الدماغ الإنساني، والعمل على تصنيف القدرات الدماغية التي تختلف من شخص إلى آخر، وهي مستقلة عن بعضها البعض. وينضاف إلى ذلك، أن نظرية الذكاءات المتعددة مادامت تعترف بموهبة المتعلمين، وعبقريتهم في العطاء والإنتاج، وتراعي ميولهم، فإنها تقلل من الهدر المدرسي، وتخفف من العنف والشغب والفوضى واللامبالاة لدى المتعلم، وتساهم في خلق المتعلم المفكر، وتصنف المتعلمين حسب احتياجاتهم العلمية والمعرفية والنفسية.
ولا ننسى كذلك المقاربتين البيداغوجية والديداكتيكية اللتين تؤمنان بوجود فوارق فردية بين المتعلمين داخل فصل دراسي واحد، يقوده مدرس واحد، بطرائق تدريسية ومناهج تربوية واحدة. في حين، تكون النتائج مختلفة على مستوى التقويم والمراقبة والتتبع؛ بسبب اختلاف المتعلمين وراثيا وعقليا ونفسيا واجتماعيا وذكائيا وطبقيا. ويستوجب هذا الوضع خططا تدبيرية إجرائية للحد من هذه الفوارق، ومن أجل تحقيق مدرسة النجاح والتميز والارتقاء الاجتماعي.
وخلاصة القول، تلك نظرة مقتضبة ومختصرة إلى مفهوم البيداغوجيا الفارقية، وأسبابها، وأنواعها، وواقع المدرسة الموحدة، وقياس الفوراق الفردية، ومبادئ البيداغوجيا الفارقية، وخصائصها، وأهدافها، وتاريخها، ومرجعياتها.
ثانيا: البيداغوجيا الفارقية بين الواقع والمتوقع
ا1 واقع المدرسة الموحدة
تعاني المدرسة الموحدة - ذات البرامج والمقررات والمناهج الواحدة، ولو كانت المقررات متعددة بأسماء مختلفة- مشاكل واقعية متعددة، مثل: تباين مستويات التلاميذ الذكائية والمعرفية، واختلافهم على مستوى العمر والقدرات والمواهب والسلوكيات، وتباينهم على مستوى الاكتساب والتمثل والاستيعاب، و تدني المستوى الدراسي لدى المتعلمين، وضعف مؤهلاتهم وقدراتهم وكفاءاتهم العلمية والمعرفية أثناء وضعهم أمام وضعيات صعبة ومعقدة؛ مما ينتج عن هذا الوضع السلبي ما يسمى بالإخفاق الدراسي والفشل، ويؤدي هذا إلى انقطاع المتعلم عن عالم المدرسة في مرحلة مبكرة، ناهيك عن الفوارق الاجتماعية والطبقية والاقتصادية، وهذا كله ناتج عن سياسة التوحيد والتعميم، وعدم الأخذ بتلابيب البيداغوجيا الفارقية.
هذا، وتنتج عن المدرسة الموحدة التي لا تراعي خصوصيات المتعلم داخل الفصل الواحد، مجموعة من المشاكل التي تتمثل في: الإخفاق، والهدر المدرسي، وإصابة السير الدراسي بالخلل، وانعدام المساواة، وغياب تكافؤ الفرص، وإعاقة مسار التنمية المستدامة أو الشاملة، وإحساس المتعلم بالوحدة والملل والضعف والعجز والفشل والعزلة، والاغتراب الذاتي والمكاني، بله عن عن الشعور بالدونية والنقص واللاجدوى. ناهيك عن التأثير السلبي لهذه الفوارق على العملية الديداكتيكية بشكل من الأشكال، إذا كان المدرس - فعلا- ينطلق من مناهج دراسية موحدة، ولا يراعي الخصوصيات الفردية النفسية والاجتماعية لدى متعلمي الفصل الدراسي. وباختصار، تنتج عن هذه الظاهرة السلبية الخسارة الكبرى بكل معانيها القريبة والبعيدة. وفي هذا الإطار، يقول دومينيك شالفان (D.Chavin) بأن النجاعة التربوية تتضاءل "مع مجموعة مكونة من تلاميذ ذوي مستويات مختلفة، فإذا ما توجه المدرس إلى النبهاء منهم، فإن الضعاف لا يفهمون أي شيء. أما إذا توجه إلى أضعف التلاميذ، فإن النبهاء يشعرون بالملل، إذاً، فالجميع خاسر" . [١]
ويعني هذا كله أن عدم مراعاة الفوارق الفردية تربويا وديداكتيكيا يسبب مشاكل سياسية، واجتماعية، واقتصادية، وطبقية، ونفسية، وبيداغوجية، وديداكتيكية، وثقافية، وحضارية ... ناهيك عن مشاكل التوجيه التعليمي والمهني. وفي هذا السياق، يقول أحمد عزت راجح:" إن إغفال ما بين الأفراد - رجالهم ونسائهم، كبارهم وصغارهم- من فوارق جسمية وعقلية ومزاجية واجتماعية .. له أسوأ الأثر بالفرد نفسه وبالمجتمع الذي يعيش فيه. فلو أغفلنا هذه الفوارق ما استطعنا أن نحفزهم على العمل، أو نسوسهم ونعاملهم بما يستحقون، أو أن نرعى العدل في إثابتهم أو عقابهم، بل ما استطعنا أن نحل مشاكلهم، و نوجههم إلى المهن والأعمال ونوع التعليم الذي يناسبهم، أو نختار من بينهم أكفأهم لعمل معين، أي: ما استطعنا أن نضع الشخص المناسب في المكان المناسب .. وينسحب هذا على الطلاب في المدرسة أو الجامعة، وعلى العمال في المصنع أو المتجر، وعلى الجنود في الجيش. والنتيجة المحتومة لذلك هبوط مستوى الإنتاج، واتساع نطاق الإخفاق في الدراسة، واضطراب الصحة النفسية للفرد الذي نكلفه القيام بعمل أو بدراسة لا يقوى عليها أو لا يميل إليها، وفساد العلاقات الإنسانية، هذا فضلا عما يصيب الاقتصاد القومي والتنظيم الاجتماعي من تبذير وخسارة وضياع. "[١]
ويعني هذا كله أنه آن الأوان لخلق مدرسة فارقية متنوعة ومتعددة ومختلفة، تؤمن بفلسفة التعدد والتفريق والتفريد بين المتعلمين لتأهيل الكفاءات وتمهيرها، وتفتيق القدرات الذاتية المضمرة لدى المتعلمين، أو صقل المواهب المتعددة، وتطوير الذكاءات المختلفة الموجودة عند تلاميذ الفصل الدراسي الواحد.
2 قياس الفوارق الفردية
تقاس الفوارق الفردية الموجودة عند المتعلمين بواسطة الفروض والاختبارات والأنشطة التقويمية والروائز، واستخدام الملاحظة والمقابلة، والاستعانة بالأقيسة العقلية ودراسة الحالة. ومن ثم، فقد نقيس القدرات العقلية والذكائية، و قد نضع معايير لمستوى التحصيل الدراسي، وقد نستخدم اختبارات الشخصية والاستعدادات النفسية. وفي هذا الصدد، يقول أحمد عزت راجح:" تستخدم الاختبارات النفسية بمختلف أنواعها لقياس الفروق بين الأفراد بعضهم وبعض، كمقارنة ذكاء طفل بذكاء الطفل المتوسط في مجموعة من نفس سنة أو الفروق بين الفرد ونفسه في فترات مختلفة، كمقارنة قدرة الفرد على حفظ الشعر قبل فترة من التدريب وبعدها، والفروق بين الجماعات: كالمقارنة بين الذكور والإناث من حيث المهارة اليدوية أو الاستعداد الموسيقي .. موجز القول: إننا نقيس لنقارن.
أما الاختبارات فعلى أنواع منها:ويعني هذا كله أنه لابد من استخدام أساليب التقويم والقياس والمعيرة للتحكم في ظاهرة الفوارق الفردية، ومعالجتها بيداغوجيا وديداكتيكيا بغية إيجاد أنسب الحلول الواقعية.
3 مشاكل البيداغوجيا الفارقية
تعرف البيداغوجيا الفارقية مجموعة من المشاكل والصعوبات والعوائق، مثل: انفصال النظرية عن الواقع، وتباين طموح المدرس وواقع التطبيق. بمعنى أن المدرس لديه طموحات كبيرة في تجاوز الخلل الذي يعانيه القسم على مستوى الفوارق الفردية، لكن واقع القسم بصفة خاصة، وواقع المدرسة بصفة عامة، لا يؤهله لممارسة نظرياته الفارقية بشكل ناجع؛ لوجود مثبطات سوسيواجتماعية واقتصادية تحول دون تمثل هذه البيداغوجيا بشكل لائق. لذا، تستمر الحياة الدراسية داخل الفصل الواحد بالوتيرة السابقة نفسها، بمختلف مشاكلها وفوارقها المختلفة والمتنوعة، ويصبح المدرس أمام قسم يختلف فيه المتعلمون معرفيا، وذكائيا، وذهنيا، ووجدانيا، وحركيا. ومن ثم، يفتقر هذا المدرس إلى الأدوات والعدة اللازمة لمواجهة هذه الظاهرة المعقدة والمركبة التي تتداخل فيها عوامل مختلفة، منها ماهو ذاتي وماهو موضوعي.
ولا ننسى أن نقول: إن المدرسين أنفسهم لا يتلقون تدريبا عمليا على مواجهة الصعوبات التي تطرحها الأقسام الجماعية الموحدة على مستوى الديداكتيك، وقد يزودون بمجموعة من النظريات والتصورات التدبيرية، لكن الواقع مختلف عما هو نظري، فلابد من النزول إلى الميدان لتجريب مختلف الطرائق والوسائل الديداكتيكية لمعرفة الأصلح منها، بغية الحد من ظاهرة الفوارق الفردية التي تزخر بها الأقسام الجماعية ذات البرامج والمناهج الموحدة. ويلاحظ لوكران "بعين البصيرة أن البيداغوجيا الفارقية تواجه عراقيل في مستوى التطبيق، لأنه غالبا ما لايقع إعداد المدرسين تقنيا ومهنيا لمثل هذه المناسبات. فالتكوين في معاهد المتعلمين مازال يعتمد على مبدإ التعليم الجماعي، وحتى عندما يتعرض المكونون إلى إفراد التعليم، فإنهم يتعرضون إليه كإمكانية نظرية لايعاضدها التدريب الفعلي على القيام بذلك بمدارس التطبيق" .
ومن المشاكل التي تحول دون تطبيق البيداغوجيا الفارقية وجود مناهج وبرامج ومقررات دراسية موحدة، أو وجود مقررات موحدة عديدة بعناوين مختلفة، توحد العملية التعليمية- التعلمية على مستوى الأهداف، والكفايات، والأنشطة، والمحتويات، والطرائق البيداغوجية، ووسائل الإيضاح، وآليات التقويم والدعم والتوليف؛ وهذا يتنافى بشكل من الأشكال مع خصوصيات كل متعلم على حدة. وفي هذا الصدد، يرى أحمد شبشوب، في كتابه (التربية بين التعليم والتعلم)، أن "من العراقيل المعيقة لتطبيق البيداغوجيا الفارقية بالفصول، وجود المناهج الموحدة. إن المنهاج الموافق لروح البيداغوجيا الفارقية هو ذاك الذي يرتفع إلى مستوى العموميات ليترك للمعلم إمكانية اختيار الأنشطة المختلفة باختلاف الفرق داخل الفصل الواحد. "
إذاً، تعرف البيداغوجيا الفارقية، في النظام التربوي والتعليمي، مفارقة صارخة بين النظرية والتطبيق، وتفاوتا شاسعا داخل مراكز التكوين وكليات التربية بين التكوين النظري والممارسة العملية.
4 الحلول المقترحة للحد من الفوارق الفردية
ثمة مجموعة من الحلول التي يمكن اقتراحها للحد من ظاهرة الفوارق الفردية التي توجد داخل الفصل الدراسي الواحد، ويمكن حصر هذه الحلول في التوجيهات التالية:
تطبيق الطرائق الفعالة
لابد من تمثل الطرائق البيداغوجية الفعالة لتحقيق تربية إبداعية ذات مردودية ناجعة، وتعويد النشء على الديمقراطية؛ ولاسيما أن هذه الطرائق الفعالة من مقومات التربية الحديثة والمعاصرة في الغرب- كما يقول السيد بلوخ (Bloch) - حينما أثبت بأن نجاح المدرسة الفعالة "لازم من أجل بزوغ مجتمع ديمقراطي، لايمكن أن يكون كذلك إلا عن طريق منطوق مؤسساته" .
وقد ظهرت هذه الطرائق الفعالة في أوربا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مع ماريا مونتيسوري (Maria Montessori) ، وجون ديوي (Dewey) ، وكلاباريد (Claparide) ، وكرشنشتاير (Kerschensteiner) ، وفرينيه (Freinet) ، وكارل روجرز (Rogers) ، ومكارنكو (Makarenko) ، وأوليفييه ريبول (Reboul) ، وفيريير (Ferriere) ، وجان بياجيه (J.Piaget) ، ...
وتعتمد هذه الطرائق الفعالة الحديثة على عدة مبادئ أساسية هي: اللعب، والحرية، وتعلم الحياة عن طريق الحياة، والتعلم الذاتي، والمنفعة العملية، وتفتح الشخصية، والاهتمام بالفوارق الفردية، والاعتماد على السيكولوجيا الحديثة، والاستهداء بالفكر التعاوني، وتمثل طريقة التسيير الذاتي، وتطبيق اللاتوجيهية، ودمقرطة التربية والتعليم ...
الذكاءات المتعددة
إذا كان جان بياجي (Jean Piaget) يقول بأحادية الذكاء الإنساني على المستوى المعرفي. ومن ثم، يحصره في الذكاء الرياضي المنطقي باعتباره أرقى الذكاءات الإنسانية، فإن هناك من يقول بتعدد الذكاءات لدى الإنسان، وخاصة الباحث السيكولوجي الأمريكي هوارد غاردنر (Howard Gardner) الذي ألف مجموعة من الدراسات حول نظرية الذكاءات المتعددة منذ ١٩٨٣ م، ونذكر من بين هذه الدراسات (أطر الذكاء)، و (الذكاءات المتعددة) ...
ومن ثم، تعد نظرية الذكاءات المتعددة فلسفة سيكوبيداغوجية جديدة للحد من ظاهرة الفوارق الفردية داخل الفصل الدراسي؛ لأنها تؤمن بالتنشيط الفعال، وخلق المواهب والمبادرات والعبقريات المختلفة والمتنوعة، وتساعد المتعلمين على التعلم الذاتي، واستغلال قدراتهم الذكائية في مجالات متنوعة. وتسعى هذه النظرية أيضا إلى إعادة الثقة في المتعلم في مختلف الثقافات الأخرى التي تتعارض مع الثقافة الغربية المركزية؛ لأن الذكاء الرياضي المنطقي ليس هو الذكاء الوحيد الذي يحقق النجاح في الحياة، فثمة ذكاءات أخرى مبدعة تؤمن المستقبل للمتعلم. كما أن نظرية الذكاءات المتعددة عبارة عن آليات ديداكتيكية وبيداغوجية فعالة، تساهم في تنشيط الدروس، وتحويلها إلى مهارات وقدرات كفائية إجرائية، تعمل على تمهير المتعلم بشكل جيد، وجعله أمام وضعيات معقدة لمواجهتها أوالتأقلم معها. كما أنها نظرية صالحة لمعالجة التعثر الدراسي، ومحاربة العنف والشغب داخل الفضاءات التربوية التعليمية، والقضاء على التسرب والهدر والفشل الدراسي، ومعالجات الكثير من معوقات التعلم لدى المتعلمين العاديين أو من ذوي الاحتياجات.
وأهم ميزة تتسم بها النظرية أنها تنبني على فلسفة التشجيع والتحفيز، وغرس الدافعية في نفسية المتعلم. ومن جهة أخرى، تستند إلى الطرائق البيداغوجية الفعالة التي تشوق المعلم والمتعلم على حد سواء، وتعمل على تقوية الطالب والمتعلم معا ...
الأخذ بالتنشيط التربوي
من المعروف أن التنشيط تقنية حركية إيجابية وديناميكية، تساهم في إخراج المتعلم من حالة السكون السلبية نحو حالة الفعل الإيجابي، عن طريق المساهمة والإبداع والابتكار والخلق، وإنجاز التصورات النظرية، وتفعيلها في الواقع الميداني ليستفيد منها الآخرون.
فكم هي الأنشطة العديدة في مجال التربية والتعليم، لأن المؤسسة التربوية بمثابة مجتمع مصغر! فجميع القضايا والمواضيع التي تؤرق المجتمع، يمكن أن تؤرق المدرسة الإبداعية، مادامت هذه المؤسسة موجودة في حضن المجتمع المكبر. لذا، تعمل هذه المدرسة على إدماج المتعلمين في المجتمع الإبداعي ليكونوا مواطنين صالحين، ويصبحوا طاقات فاعلة نافعة للوطن والأمة على حد سواء.ومن أهم الأنشطة التي يمكن أن يقوم بها الفضاء التربوي الإبداعي، يمكن الحديث عن النشاط التربوي، والنشاط الفني، والنشاط الأدبي، والنشاط العلمي، والنشاط الثقافي، والنشاط الإيكولوجي (البيئي) ، والنشاط الاجتماعي، والنشاط الاقتصادي، والنشاط الديني، والنشاط الخيري، والنشاط السياسي، والنشاط الإعلامي، والنشاط المدني، والنشاط الرياضي، والنشاط السياحي ....
وعليه، فللتنشيط أهمية كبرى في مجال التربية والتعليم لكونه يرفع من المردودية الثقافية والتحصيلية لدى المتمدرس، ويساهم في الحد من السلوكيات العدوانية، مع القضاء على التصرفات الشائنة لدى المتعلمين، كما يقلل من هيمنة بيداغوجيا الإلقاء والتلقين، ويعمل على خلق روح الإبداع، والميل نحو المشاركة الجماعية، والاشتغال في فريق تربوي.تحقيق مدرسة التعايش
إذا كانت المقاربة الصراعية لاترى في المدرسة سوى فضاء للتطاحنات الإيديولوجية والطبقية، وفضاء للتفاوت الاجتماعي والثقافي واللغوي والاقتصادي. فقد ترتب على هذا - منطقا واستنتاجا- أن أدى الواقع المنهار بالمدرسة التربوية إلى الفشل والإفلاس اللازمين، حيث صارت المدرسة، عند الكثير من الملاحظين، مؤسسة الخيبة والمأساة والصراع الجدلي والتناقضات الصارخة. بيد أن هناك من يعارض هذا الطرح الصراعي، فيعتبر المقاربة الصراعية ذات أبعاد سياسية وحزبية ضيقة، تنطلق من تصورات ماركسية أو هيجيلية أو منطلقات ?يبيرية أو ألتوسيرية، ومن ثم تفتقد هذه التصورات خاصية الحياد والموضوعية والتحليل العلمي المنطقي.
وعليه، فليس من الضروري أن تكون المدرسة فضاء للصراع والتطاحن العرقي واللغوي والثقافي وانعدام تكافؤ الفرص، بل يمكن أن تكون مدرسة ديمقراطية، وفضاء للحرية والإبداع والابتكار، ومكانا لإذابة الفوارق الاجتماعية، وبيئة مناسبة لتعايش الطبقات، وتوحيد الرؤى والتطلعات بين المتعلمين. ومن ثم، على المؤسسة التربوية أن تذيب كل الخلافات الموجودة بين التلاميذ على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي واللغوي، وتحرير المتعلمين المنحدرين من الفئة الدنيا من عقدهم الطبقية الشعورية واللاشعورية، وتخليصهم من مركب النقص عن طريق تنفيذ المشاريع المؤسساتية، وتقديم الأنشطة لإمتاع التلاميذ وتسليتهم وترفيههم، وتكوينهم تكوينا ذاتيا، يمحي كل الفوارق التي يمكن أن توجد بين المتمدرسين داخل المدرسة الواحدة.
تمثل البيداغوجيا الإبداعية
البيداغوجيا الإبداعية هي نظرية تهدف إلى بناء مستقبل تربوي حداثي، يقوم على الخلق و التطوير و الإبداع والاكتشاف و الخلق، بعد المرور الضروري من مرحلة الحفظ البناء، ومرحلة التقليد و المحاكاة و التدريب، و ذلك كله من أجل خلق مجتمع متنور كفء، قادر على مواجهة التحديات الموضوعية و الواقعية والدولية على جميع الأصعدة و المستويات والقطاعات الإنتاجية. بيد أن هذه النظرية التربوية الإبداعية لا يمكن أن تحقق ثمارها المرجوة إلا في مجتمع العمل و الحريات الخاصة و العامة والديمقراطية المتخلقة.
و لا يمكن تطبيق هذه البيداغوجيا الجديدة إلا إذا أسسنا مدارس الورشات و المختبرات و المحترفات، و عودنا المتعلم/ المتمدرس على حب الآلة والفن و التجريب العلمي، و تطبيق النظريات، و دربناه أيضا على فعل التنشيط التخيلي و الرياضي، و ساعدناه على تمثل فلسفة المنافسة والتسابق و الاختراع، و فعلنا الفلسفة البراغماتية ذات التوجهات العملية و الإنسانية و الاستكشافية في الحاضر و المستقبل، و خلقناها دينيا وخلقيا من أجل بناء مجتمع إسلامي مزدهر يساهم في التنمية العالمية، عن طريق التصنيع الهادف، و إنتاج النظريات، و اختراع المركبات الآلية، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، و تصنيع الأسلحة المتطورة الحديثة لتأمين وطننا و أمتنا، والدفاع عنها بالنفس والنفيس، ودرء العدوان الخارجي، و الحفاظ على كرامتنا وأنفتنا وسيادتنا بدل الإحساس بالذل و الضيم الذي نشعره اليوم؛ بسبب تخلفنا السيء، وانحطاطنا المتقاعس، و انبطاحنا التاريخي والسياسي والخلقي.
العمل الجماعي
يعد الفكر التعاوني من أهم الآليات لخلق الأنشطة الحقيقية؛ لأن الاشتغال في فريق تربوي، داخل جماعة معينة، يساعد التلميذ على التفتح الفعال والنمو الإيجابي، واكتساب المعارف والتجارب لدى الغير. كما يبعده عن كثير من التصرفات الشائنة، ويجنبه أيضا الصفات السلبية، كالانكماش، والانطواء، والانعزالية، والإحساس بالخوف والنقص والدونية، ويساعده على التخلص من الأنانية، والابتعاد عن حب الذات. ولايمكن للدول أن تحقق التقدم والازدهار إلا إذا اشتغلت في إطار فرق جماعية، كما نجد ذلك في الغرب والولايات المتحدة الأمريكية - مثلا-.
تطبيق ديناميكية الجماعة
تعد ديناميكية الجماعة من الآليات المهمة التي يستعين بها التنشيط التربوي والديداكتيكي بغية خلق مواطن صالح، وبناء شخصية متوازنة سوية سيكولوجيا وأخلاقيا واجتماعيا. ومن ثم، فهي منهجية مهمة في علاج الكثير من الظواهر النفسية الشعورية واللاشعورية لدى المتعلم. كما أنها تقنية تنشيطية هامة، يمكن الاستعانة بها أثناء تنفيذ العملية التعليمية- التعلمية. وهي أيضا طريقة فعالة في التنشيط التربوي والفني، وإجراء منهجي للتحكم في التنظيم الذاتي للمؤسسة. ومن ثم، تستدمج ديناميكية الجماعة المتعلمين، ضمن جماعات تربوية داخل الفصل الدراسي، من أجل معالجتهم نفسيا واجتماعيا، بتطهيرهم وترويضهم، وتربيتهم على الفكر الديمقراطي، وتعويدهم على التعامل الشفاف الواضح، والتعامل الصادق، والمعايشة الحقيقية لمشاكل المدرسة والمجتمع والأسرة على حد سواء. ولايمكن للتلميذ أن يبدع إلا داخل جماعة ديمقراطية، تؤمن بالأخوة الصادقة والتنافس الشريف. ومن جهة أخرى، تتشبث بفكر الاختلاف والشورى والعدالة، وتعتز بقانون الحقوق والواجبات. ومن هنا، لابد أن يكون للجماعة قائد ديمقراطي يوزع الأدوار، ويشرف على تنظيم الجماعة، ويسهر على تنظيمها وعملها ومآلها، ويتحمل مسؤولياتها الجسيمة.
فلسفة الشراكة
من المعلوم أن الشراكة نوعان: شراكة داخلية، وشراكة خارجية. وما يهمنا في هذا السياق هو ما يسمى بالشراكة الداخلية التي يساهم فيها جميع الفاعلين الذين يساهمون في تدبير المؤسسة تسييرا وتنشيطا وإشرافا، وخاصة من قبل المدرسين، والأساتذة، والمتعلمين، ورجال الإدارة، والمشرفين التربويين، وأسر التلاميذ، ومجلس التدبير ... ومن ثم، لا يمكن خلق مشاريع تربوية تخدم المؤسسة، من قريب أو من بعيد، إلا باختيار مواضيع الشراكة ذات الأولوية والضرورة القصوى، كمحاربة الهدر المدرسي عن طريق الدعم التربوي، وتقديم ساعات إضافية تطوعية لخدمة التلاميذ، ومساعدتهم على مراجعة دروسهم، وإنجاز واجباتهم وفروضهم المنزلية أو الفصلية، مع تدريبهم على التطبيق المنهجي والتحليل التركيبي والتقويمي، والأخذ بيدهم من أجل السير بهم نحو ثقافة التعلم الذاتي والتكوين المستمر، وسد كل ثغرات التعثر والنقص لديهم، بإرشادهم ومحاورتهم بطريقة ديمقراطية تقوم على التوجيه الصحيح، والاعتماد على الحجاج المنطقي والبرهان العقلي من أجل مواصلة دراستهم، والتنسيق مع أسرهم من أجل إرجاع أولادهم إلى المدرسة، وإقناعهم بأهمية التعلم والتكوين والتدريس من أجل بناء مواطن صالح.
تفعيل الحياة المدرسية
يقصد بالحياة المدرسية (la vie scolaire) [١] تلك الفترة الزمنية التي يقضيها التلميذ داخل فضاء المدرسة، وهي جزء من الحياة العامة للتلميذ/ الإنسان. وهذه الحياة مرتبطة بإيقاع تعلمي وتربوي وتنشيطي متموج حسب ظروف المدرسة وتموجاتها العلائقية والمؤسساتية. وتعكس هذه الحياة المدرسية مايقع في الخارج الاجتماعي من تبادل للمعارف والقيم، وما يتحقق من تواصل سيكواجتماعي وإنساني. وتعتبر "الحياة المدرسية جزءا من الحياة العامة المتميزة بالسرعة والتدفق التي تستدعي التجاوب والتفاعل مع المتغيرات الاقتصادية والقيم الاجتماعية والتطورات المعرفية والتكنولوجية التي يعرفها المجتمع، حيث تصبح المدرسة مجالا خاصا بالتنمية البشرية والحياة المدرسية، بهذا المعنى، تعد الفرد للتكيف مع التحولات العامة، والتعامل بإيجابية، وتعلمه أساليب الحياة الاجتماعية، وتعمق الوظيفة الاجتماعية للتربية؛ مما يعكس الأهمية القصوى لإعداد النشء، أطفالا وشبابا، لممارسة حياة قائمة على اكتساب مجموعة من القيم داخل فضاءات عامة مشتركة" .
ويعني هذا أن الحياة المدرسية آلية إجرائية صالحة للحد من الفوارق الفردية الموجودة بين المتعلمين.
ه البيداغوجيا المؤسساتية
يرفض كثير من المربين تحويل المؤسسة التربوية إلى مؤسسة الثكنة أو فضاء بيروقراطي يكرس التمييز العنصري، ويؤجج الصراع الطبقي، أو يتم إصلاحها خارجيا، بل ينبغي أن يكون الإصلاح داخليا، بالاعتماد على مبادئ البيداغوجيا المؤسساتية (INSTITUTIONNELLE PIDAGOGIE) التي نظر لها كل من أوري (OURY) ، ولوبرو (LOBROT) ، ولاپاساد (LAPASSADE) .
هذا، وقد ظهرت المدرسة المؤسساتية، باعتبارها اتجاها تربويا حديثا، في فرنسا، وتعتبر أن الإصلاح "يجب أن يمر عبر المؤسسة، بالإضافة إلى البنيات الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثمة يجب الاهتمام بمفهوم الإدارة الذاتية والتسيير الذاتي من أجل تحقيق الاستقلال الذاتي للمتربين في إطار مؤسسي مفتوح" .
إذاً، ترفض هذه البيداغوجية الجديدة المدرسة الثكنة التي تخنق التلميذ بنظامها الانضباطي البيروقراطي الذي يحد من حرية التلميذ. ومن ثم، تتحول المدرسة إلى صندوق أسود، أو إلى ثكنة عسكرية لاتؤمن إلا بالنظام والانضباط على حساب حرية التلميذ، وعلى حساب أنشطته الثقافية والفنية والرياضية والعلمية.
لهذا، تقترح البيداغوجيا المؤسساتية مدرسة فارقية مرنة ومنفتحة، تنبع قوانينها من التفاعل الداخلي لأفرادها، قصد الانتقال بالمدرسة من مؤسسة التلقين والتوجيه والانضباط القاتم نحو مؤسسة إبداعية فاعلة وفعالة مبدعة ومبتكرة، تسعى إلى تحقيق التقدم والازدهار والسعادة الفضلى.
البيداغوجيا اللاتوجيهية
تنبني اللاتوجيهية على التعلم الذاتي، والتسيير الشخصي، واعتماد المتعلم على نفسه في إنجاز واجباته، وأداء أعماله. وهنا، يتحول المدرس إلى مشرف مرشد، ولا يتدخل إلا إذا طلب منه المتعلم ذلك. وتعتمد اللاتوجيهية على الحرية والعفوية والتلقائية، وبناء المعرفة عن طريق التدريج المنطقي والشخصي، والابتعاد عن طرائق التدريس التلقينية القائمة على الإكراه والتلقين والحفظ، أو تدخل المدرس تعسفا وحيفا في أعمال التلميذ إرغاما وقسرا، وتوجيه رغباته كما يشاء دون استشارته في ذلك. وتزرع هذه الطريقة الثقة في المتعلم، وتعوده على المثابرة الشخصية والتعلم الذاتي وحب المغامرة، والاستعانة بكفاءاته وقدراته الذاتية لحل المشاكل والوضعيات، وتطويع الصعوبات التي تواجهه في المدرسة والحياة على حد سواء.
هذا، ويعد جان جاك روسو (Rousseau) ، وأوليفييه ريبول (Olivier Reboul) ، وكارل روجرز (C.Rogers) من أهم منظري البيداغوجيا اللاتوجيهية.
الدراما التعليمية
ن
عني بالدراما التعليمية مسرحة المناهج والبرامج والمقررات الدراسية لخدمة الطفل المتعلم، وتحقيق الوظائف التربوية والتعليمية من وراء تقديم الخبرات التعليمية داخل الفصل الدراسي. ومن هنا، تنبني الدراما التعليمية على شرح الدروس وتفسيرها، في ضوء آليات تنشيطية درامية، كاستخدام الألعاب، وتبادل الأدوار، وتقليد الشخصيات.
ويتطلب تدريس الحساب، مثلا، استخدام مجموعة من الألعاب التمثيلية. بينما تستلزم قراءة النصوص المسرحية أو القصصية أو الشعرية من المتعلم تقليد الأصوات الغيرية نطقا وحركة وتعبيرا وتشخيصا. كما تحتاج مواد التربية الإسلامية إلى التمثيل الدرامي لتشخيص مجموعة من المواقف والقيم الأخلاقية، قصد تعلمها واكتسابها وتمثلها.
هذا، ويتحول المدرس، في الفصل الدراسي، إلى مخرج مسرحي، بتوظيف خطاب تواصلي درامي، سواء أكان لفظيا أم غير لفظي، عن طريق تشغيل اللغة المعبرة، واستخدام الحركات الهادفة. في حين، يشكل التلاميذ الممثلين والمشاهدين الراصدين على حد سواء. أما القسم ومصطبته، فهما بمثابة الخشبة الركحية. بينما تشبه المقاعد والطاولات والكراسي والصور المعلقة على الجدران ما يسمى بالتأثيث السينوغرافي.
هذا، ويمكن "استخدام هذا النوع من المسرح التعليمي على أوسع نطاق لتقديم مختلف المواد والمناهج الدراسية، بشكل يربط الطفل بمدرسته ... لما فيه من تشويق، وللدور الإيجابي الذي يعطيه للطفل في العملية التعليمية، بحيث يكون - هنا- التمثيل مستخدما كطريقة للتعليم. أي: إنه طريقة لتعليم الموضوعات. في حين، تكون الدراما الإبداعية والتمثيل التلقائي، فهو الوسيلة التي يمكن عن طريقها أن يصبح الأطفال قادرين على استخدام التمثيل لا كوسيلة للتعليم، بل كإجادة التمثيل، حتى يستطيع الأطفال فهم التاريخ والجغرافية، أو الاقتراب من الموضوعات العلمية، أو تذوق القصص الدينية والأدبية. وبهذا الفهم، نقترب من نوع آخر في المسرح المدرسي، هو مسرح المنهاج، والذي يعتمد فيه على الأطفال بعد إجادتهم للتمثيل بواسطة الدراما الإبداعية والنشاط التمثيلي للطفل أو التمثيل التلقائي؛ لأنه بدون هذه المرحلة لايمكننا الإقدام على تقديم مسرحيات المنهاج." [١]
ومن المعروف أن للدراما التعليمية وظائف كثيرة، فهي تساعد على توضيح الدروس وشرحها، وتذليل الصعوبات، والجمع بين التسلية والتعليم، وإفادة العقل وإمتاع الوجدان، وتحريك الطفل المتعلم ذهنيا ووجدانيا وحركيا لبناء دروسه اعتمادا على ذاته، عن طريق المحاكاة والتقليد وتبادل الأدوار الدرامية. كما تساهم الدراما التعليمية في إبعاد التكرار والروتين، وتفادي رتابة الدروس التي تجعل المتعلم منفعلا وسلبيا، غير فاعل ولامساهم. كما تجنب المدرس فداحة الطرائق البيداغوجية التقليدية القائمة على التلقين والتوجيه والحفظ.
تطبيق الكفايات والمجزوءات
تنصب بيداغوجيا الكفايات على المتعلم، فتعنى بتطوير كفاياته وقدراته ومؤهلاته ودراياته ومهاراته وإتقاناته، بوضعه أمام الوضعيات- المشكلات التي تستوجب حلا ناجعا انطلاقا من سياق ما. بمعنى أن بيداغوجيا الكفايات هي مقاربة تربوية جديدة، تعطي الأولوية للمتعلم الذي يملك القدرة على اكتساب المعارف والموارد التي ينبغي توظيفها أثناء مواجهته للوضعيات الصعبة والمعقدة.
وعليه، تهدف هذه المقاربة التربوية المعاصرة إلى تكوين متعلم كفء، يعرف كيف يستثمر المعرفة ويوظفها، ويعرف كيف ينمي تفكيره بطريقة ميتامعرفية. أضف إلى ذلك، أن هذه المقاربة لاتهتم بالمحتويات والمعارف كما هو حال المدرسة التقليدية، بقدر ما تهتم بالكيف والوعي بطريقة اكتساب المعارف والمهارات والمواقف والكفايات التواصلية والثقافية والمنهجية. بمعنى أن هذه النظرية تربط الكفايات بالوضعيات داخل سياق تداولي ما.
وأهم إيجابية تمتاز بها هذه المقاربة التربوية هو إعادة النظر في مقاييس التقويم والاختبار، والاستعانة بالتقويم الإدماجي الكفائي في الحكم على الكفاءات والقدرات التعلمية. ومن مزايا هذه المقاربة كذلك أنها تتبع الحياة الشخصية للمتعلم طوال مساره الدراسي، فتقيم علاقة تفاعلية إيجابية بين المتعلم والمعلم، مع تجذير النشاط التعلمي في الحياة الشخصية للمتعلم، فضلا عن التركيز على ماهو كيفي ومنهجي ومهاري.
بيد أنه لايمكن تطبيق هذه المقاربة في الأقسام التعليمية المكتظة بالتلاميذ، ولايمكن أيضا تمثلها في الفصول الدراسية العادية التي فيها تعدد في الفوارق الفردية الناتجة عن سياسة الخريطة المدرسية، ويتعذر أيضا تطبيقها في الأقسام المشتركة كما هو الشأن في المغرب. كما تستوجب هذه المقاربة من المدرس تحضير مجموعة من الوضعيات الصعبة التي تتناسب مع مستوى المتعلم، ناهيك عن تعقد مساطير التقويم الإدماجي بالنسبة للمدرس. كما أن الحاجة ماسة إلى تكوين المدرس في إطار هذه البيداغوجيا تكوينا كفائيا حقيقيا ومنتجا ومبدعا وهادفا، حيث يصبح المدرس موجها ومرشدا ومحضرا للوضعيات الإدماجية، وليس معلما أو ملقنا أو مالكا للمعرفة الموسوعية التي يريد أن يشحن بها عقل المتعلم كما، وليس كيفا.
6 التطبيق الديداكتيكي للبيداغوجيا الفارقية
ثمةمجموعة من الآليات البيداغوجية والديداكتيكية لتنزيل البيداغوجيا الفارقية في أرض الواقع عملا وممارسة وتطبيقا وتجريبا واختبارا، منها: إنجاز تقويم تشخيصي مسبق لمعرفة مواطن القوة والضعف لدى المتعلم داخل الفصل الجماعي الموحد، وتبيان أنواع التعثر الموجود لدى المتعلم، بتحديد أسبابه الذاتية والموضوعية، المباشرة وغير المباشرة، وتصنيف تلاميذ الفصل الواحد إلى فئات وجماعات مختلفة حسب مستواها المعرفي، والذكائي، والوجداني، والحركي، والفني، والثقافي، والاجتماعي، والطبقي، والاقتصادي ... بمعنى " أن يتعرف المعلم على الخاصيات الفردية لتلامذة فصله: مستوى تطورهم الذهني والوجداني والاجتماعي، قيمهم ومواقفهم إزاء التعليم المدرسي، وتنصح البيداغوجيا الفارقية المربين بتقسيم الفصل الواحد إلى فرق صغيرة متجانسة، وبمطالبة كل فريق بعمل يتلاءم مع صفاته المميزة، وذلك في إطار عقد تعليمي تعلمي يربط المعلم بتلاميذه. [١] "
ومن ثم، لابد من الانطلاق، على المستوى الديداكتيكي، من مجموعة من الأهداف الإجرائية والكفايات الأساسية التي ينبغي إنماؤها لدى المتعلم الفارقي، بعد أن يقسم القسم الواحد إلى فرق عمل، يوزع أفرادها جماعات في ضوء ديناميكية الجماعة، أو يتمثل في ذلك التوزيع تصورات علم النفس الاجتماعي. وبعد ذلك، يقدم المدرس مجموعة من الأنشطة الدراسية تتلاءم مع فئة معينة، وتحترم ذكاء معينا، مثل: الذكاء الرياضي، والذكاء الفني، والذكاء الفضائي، والذكاء الجسدي، والذكاء الطبيعي، والذكاء الذاتي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء اللغوي ...
ولابد أن تكون هناك مقررات دراسية فارقية متنوعة تراعي نظرية الذكاءات المتعددة، أو يجتهد المدرس في إيجاد مقرر دراسي فارقي، حسب مختلف المستويات الدراسية التي توجد في فصله، ويفضل أن تكون في المدرسة فصول فارقية تراعي المستويات الدراسية المتقدمة أو العادية أو المتأخرة. علاوة على ذلك، يختار المدرس محتويات فارقية ذات مضامين تتناسب مع مستويات المتعلمين، وتتلاءم مع مختلف ميولهم الذهنية والوجدانية والحركية. ويختار أيضا طرائق تدريسية متنوعة ناجعة، فينطلق من وسائل ديداكتيكية صالحة لتقديم المضامين والمحتويات الفارقية، باستخدام الطرائق البيداغوجية الفعالة أو النشطة، ثم يوظف التنشيط المسرحي والقراءة الدرامية.
كما يلتجئ المدرس إلى التقويم الفارقي القائم على الدعم، والتوليف، والتشخيص، والمعالجة، والتصحيح، والفيدباك، وتفريد المتعلم. ومن هنا، لابد من التركيز على المتعلم بيداغوجيا وديداكتيكيا، وتشجيعه على التعلم الذاتي لبناء شخصيته معرفيا ووجدانيا وحركيا، في إطار البيداغوجيا اللاتوجيهية، أو البيداغوجيا المؤسساتية، أو بيداغوجيا التنشيط المسرحي، أو بيداغوجيا الطرائق الفعالة ... وهذا كله من أجل تكوين مواطن صالح نافع لذاته وأسرته ووطنه وأمته، في إطار مدرسة النجاح التي تسعى جادة لتطوير المنتوج المدرسي، وتحويل قدرات المتعلمين إلى كفايات وظيفية، والحد من الإخفاق الدراسي، وإيقاف الهدر المدرسي، والعمل على إكساب المتعلم قدرة أفضل على تحمل المسؤولية والاستقلالية والتعلم الذاتي، بهدف التكيف الاجتماعي والتفاعل الإيجابي مع المتغيرات الذاتية والموضوعية.
ومن ثم، فهناك أنواع عدة من طرائق التعامل مع المتعلمين في ضوء البيداغوجيا الفارقية:
وعليه، فالتفريق أنواع متعددة: تفريق فوري آني، وتفريق تتابعي، وتفريق مؤجل. أو بتعبير آخر، هناك تفريق تشخيصي قبلي، وتفريق تكويني متزامن، وتفريق متتابع ...
ومن ناحية أخرى، هناك حلول واقتراحات متعددة ومتنوعة ومختلفة للتنزيل الديداكتيكي للبيداغوجيا الفارقية. ومن هنا، يرى الدكتور أحمد أوزي أن "لبلوغ هذا الهدف لابد أن يتعرف المعلم على الخاصيات الفردية لتلامذة فصله: مستوى تطورهم الذهني والوجداني والاجتماعي، قيمهم ومواقفهم إزاء التعليم المدرسي. وتنصح البيداغوجيا الفارقية المربين بتقسيم تلامذة الفصل الواحد إلى فرق صغيرة متجانسة، وبمطالبة كل فريق بعمل يتلاءم مع صفاته المميزة، وذلك في إطار عقد تعليمي يربط المعلم بتلاميذه."
ومن الحلول المقترحة لتوحيد مستوى التعليم، ومحاربة الفوارق المعرفية بين التلاميذ، ينصح أحمد أوزي باتباع سياسة الدعم البيداغوجي والتفريدي، عن طريق تقديم دروس إضافية مجانية للمتعثرين من أبناء الطبقة الفقيرة، بل تقدم حتى لأبناء الطبقة العالية، لتعميم المعرفة، وخلق فرص متساوية أمام جميع الأطراف لاكتساب الذكاء المتعدد، والتمكن من مهارات التحليل والمعالجة قصد تكوين تلاميذ مقتدرين أكفاء، يستطيعون مواجهة الوضعيات الصعبة والمعقدة. ومن ثم، يشكل الفصل الدراسي "مجموعة غير متجانسة من الأطفال، في استعداداتهم وقدراتهم، مما يدعو في عملية الدعم التي تقلل من المتخلفين دراسيا عن أقرانهم. كما يمكن النظر إلى ضرورة الدعم وأهميته من ناحية ثانية، وهي اختلاف طريقة أو أسلوب تعلم كل تلميذ. ومعظم المدرسين لا يأخذون هذا الأمر بعين الاعتبار، فيدرسون بطريقة واحدة. وفي هذه الحالة، فإن عملية الدعم لاتكسب معناها الحقيقي والمفيد إلا إذا تم تعليمها بطريقة مختلفة عن الطريقة التي علمت بها المادة أول الأمر.
إن التعريف الذي تم تبنيه لبيداغوجية الدعم والتقوية، من قبل وزارة التربية والتعليم أنها" مجموعة من الوسائل والتقنيات التربوية التي يمكن إتباعها داخل الفصل (من إطار الوحدات الدراسية) ، أو خارجية (في إطار أنشطة المدرسة ككل) ، لتلافي بعض ما قد يعترض تعلم التلاميذ من صعوبات (عدم الفهم- تعثر- تأخر ... ) ، تحول دون إبراز القدرات الحقيقية، والتعبير عن الإمكانيات الفعلية الكامنة. "[١]
ويعني هذا أنه من الضروري الأخذ بسياسة الدعم والتقوية والتوليف وصقل معارف المتعلمين باستمرار، لإنقاذهم من براثن الإخفاق والفشل والضياع والهدر المدرسي.
أما عبد الكريم غريب، فيرى أن البيداغوجيا الفارقية تعتمد على مجموعة من الإجراءات الديداكتيكية، وهي:
"وقد يقول البعض من المربين والدارسين: إن كثرة التلاميذ في الفصل الدراسي الواحد الذي قد يتعدى أربعين أو خمسين تلميذا، قد يكون سببا مباشرا في تجلية الفوارق الفردية بين المتعلمين، والحل - إذاً- هو التقليل من هذا الاكتظاظ أو الحد من الكمية الزائدة. بينما يكمن الحل الحقيقي في توظيف الطرائق البيداغوجية والديداكتيكية المناسبة لمعالجة مختلف الفوارق الفردية الموجودة داخل القسم الجماعي أو المشترك. وفي هذا الصدد، يقول عبد الكريم غريب: "وبالمثل هنالك تسليم من قبل المبدإ، يفيد بأن تخفيض عدد التلاميذ داخل الفصل الدراسي، الأمر الذي قد ينحو باتجاه الفارقية وييسرها- يتيح تحسين الإنجازات المدرسية. والحال أن هذا الأمر لم تتم البرهنة عليه أبدا. في حين، هنالك أعمال حديثة العهد حاولت إثبات العكس. فعلى سبيل المثال يقول الباحث محمد شرقاوي: إن الأمور ليست بهذه البساطة، وأنه بطريقة ما وحدهم التلاميذ الجيدون أو أولئك الأكثر امتيازا ثقافيا يستفيدون بشكل فعلي من علاقة وثيقة ومتفردة. وإذا كانت هذه الأطروحة ثابتة بصفة موضوعية، فمن الخطإ، بل ومن قبيل الوهم الاعتقاد بأنه يكفي تفريق العلاقة كي تتحسن إنجازات التلاميذ كما لو أن الأمر يتم بشكل آلي. إذاً، فأنماط أو روح الشخصية المفيدة، ينبغي ابتكارها حتى يتسنى تفادي المفاعيل المضادة لماهو منشود."
وخلاصة القول، تلكم- إذاً- نظرة مختصرة إلى واقع المدرسة الموحدة، وقياس الفوارق الفردية تقويما واختبارا. وتلكم كذلك أهم المشاكل والحلول التربوية والديداكتيكية للحد من ظاهرة الفوارق الفردية نظرية وممارسة. فضلا عن أهم الإجراءات الديداكتيكية التطبيقية لتمثل البيداغوجيا الفارقية واقعيا وميدانيا.
الخاتمة
وخلاصة القول، يتبين لنا مما سبق قوله، أن البيداغوجيا الفارقية لم تتبلور عمليا ونظريا إلا في سنوات السبعين من القرن العشرين، وتطورت في سنوات الثمانين، قصد معالجة المشاكل المتعلقة بالإخفاق والهدر المدرسيين. ومن ثم، فهي تهدف إلى تفريد المتعلم بيداغوجيا وديداكتيكيا، وتنمية قدراته الذاتية، وتطوير ذكاءاته المتعددة للتكيف الإيجابي مع الواقع الدراسي والاجتماعي. ولا يمكن تحقيق هذه البيداغوجيا واقعيا وعمليا إلا بإشراك مجموعة من الأطراف داخل العملية التعليمية- التعلمية، مثل: المدرسين، والتلاميذ، والإدارة، والمشرفين التربويين، وأولياء الأمور، والشركاء الداخليين والخارجيين ... لتوفير بيئة مناسبة وصالحة لمعالجة ظاهرة الفوارق الفردية التي تنتج عنها مشاكل عدة: سياسية، ونفسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وتربوية، وديداكتيكية ...
وللحد من البيداغوجيا الفارقية، يمكن أن نشير إلى مجموعة من الحلول المقترحة التي يمكن حصرها في الاستفادة من نظرية الذكاءات المتعددة، وتطبيق الحياة المدرسية، والدراما التعليمية، وبيداغوجيا الكفايات والمجزوءات والإدماج، والبيداغوجيا الإبداعية، والطرائق الفعالة، والعمل الجماعي، والأخذ بفلسفة الشراكة، وتطبيق ديناميكية الجماعة، وتمثل البيداغوجيا المؤسساتية، والاستفادة من اللاتوجيهية، والأخذ بالفكر التعاوني، والاسترشاد بالتربية الحديثة والمعاصرة، وتطبيق نتائج السيكولوجيا المعرفية ومبادئ السيكولوجيا التكوينية، والسعي نحو بناء مدرسة التعايش، والاهتمام بالتنشيط التربوي، ودمقرطة التعليم، والاستفادة من نظريات سوسيولوجيا المدرسة وعلم الاجتماع التربوي ...
بيد أنه، في الحقيقة، لايمكن الحد من مشاكل هذه الفوارق التربوية والديداكتيكية بين المتعلمين، داخل الفصل الدراسي الواحد، وبمناهج ومقررات واحدة ومشتركة، إلا بتطبيق الدعم والتقوية والمراجعة المستمرة، وتحفيز المتعلم ماديا ومعنويا على اكتساب الموارد والمهارات والدرايات، من أجل استثمارها أثناء مواجهة الوضعيات الإدماجية الصعبة والمركبة والمعقدة، بهدف إيجاد حلول ناجعة ومناسبة تتلاءم مع التعليمات والأسئلة المقترحة.
مرحبا بكم، انظموا إلينا وعبروا عن آرائكم